تناولت في المقالات السابقة العديد من الجوانب النظاميَّة الخاصة باتفاق التحكيم، وتوقفت في المقال السابق عند شرط الكتابة كأحد شروط صحَّة الاتفاق على التحكيم، وذكرت أنَّ المنظِّم السعوديّ قد أضفى قدرًا كبيرًا من المرونة، على شرط الكتابة لكي يستوعب كافة التطوّرات والمستجدات الراهنة بحيث يغطي جميع صور وأنواع الكتابة، بما في ذلك المراسلات الإلكترونية. وفي هذا الصدد فقد نصَّت المادة التاسعة من نظام التحكيم السعودي الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/34) وتاريخ 24/5/1433ه على أنَّه: «3/ يكون اتفاق التحكيم مكتوبًا إذا تضمّنه محرَّر صادر من طرفي التحكيم، أو إذا تضمَّنه ما تبادلاه من مراسلات موثَّقة، أو برقيات، أو غيرها من وسائل الاتصال الإلكترونيَّة أو المكتوبة، وتعدُّ الإشارة في عقد ما أو الإحالة فيه إلى مستند يشتمل على شرطٍ للتحكيم بمثابة اتفاق تحكيم كما يُعدُّ في حكم اتفاق التحكيم المكتوب كل إحالة في العقد إلى أحكام عقدٍ نموذجيّ، أو اتفاقيّة دوليّة، أو أيّ وثيقة أخرى تتضمَّن شرط تحكيم إذا كانت الإحالة واضحة في اعتبار هذا الشرط جزءًا من العقد». كما يعدُّ دليلًا على كتابة اتفاق التحكيم، الإحالة في العقد- الذي ينشأ بصدده نزاع ما- إلى أحكام عقد نموذجي، أو إلى الأحكام التي تتضمَّنها الاتفاقات الدوليَّة، أو مراكز التحكيم الدائمة، وغيرها. بيدَ أنَّ هذه الإحالة مشروطة بتحقّق أمرين أوّلهما: أن تكون الإحالة واضحة جليَّة لا لَبْس فيها ولا غموض. وثانيهما: أن يكون المستند المحال إليه جزءًا من العقد الذي نشأ حوله النزاع. ويتفق نظام التحكيم السعودي المذكور في نصِّه على شرط كتابة اتفاق التحكيم مع العديد من الأنظمة والقوانين والتشريعات المتعدِّدة في دول العالم، بما في ذلك قانون الأونيسترال النموذجي للتحكيم التجاري الدولي لسنة 1985 مع التعديلات التي اعتمدت سنة 2006م، حيث نصَّت المادة السابعة منه على أنَّه: «2/ يجب أن يكون اتفاق التحكيم مكتوبًا، ويُعتبر الاتفاق مكتوبًا إذا ورد في وثيقة موقَّعة من الطرفين أو في تبادل الرسائل أو التلكسات أو البرقيات أو غيرها من وسائل الاتصال السلكي واللاسلكي التي تكون بمثابة سجل اتفاق، أو في تبادل المطالبة والدفاع التي يدَّعي فيها أحد الطرفين وجود اتفاق لا ينكره الطرفُ الآخر. وتعتبر الإشارة في عقد ما إلى مستند يشتمل على شرط التحكيم بمثابة اتفاق تحكيم، شريطة أن يكون العقد مكتوبًا وأن تكون الإشارة قد وردت بحيث تجعل من هذا الشرط جزءًا من العقد». ومتى توافرت شروط صحة اتفاق التحكيم، فإنَّه يترتب على ذلك العديد من الآثار النظامية، منها أن يكون اتفاق التحكيم نافذًا ولا يمكن فسخه أو التحلّل منه بشكل أحادي، بل يجب أن يتم ذلك بإرادة كلِّ الأطراف مجتمعة إن كان النزاع بين أكثر من طرفين. ومن ذلك أيضاً أنَّ اتفاق التحكيم يتمتّع بقوة الإلزام، بحيث تلتزم الأطراف بطرح النزاع على هيئة تحكيم، بديلًا عن اللجوء إلى القضاء، إذ بموجب هذا الاتفاق تتمّ إحالة النزاع إلى التحكيم ليكون هو صاحب الولاية في الفصل في أيِّ نزاع ينشأ بين الأطراف. وهذه القوّة الإلزامية التي يتمتّع بها اتفاق التحكيم تقوم في مواجهة أطرافه، ولا تقوم في مواجهة الغير، ما دام قد توافرت شروط صحته، إلا في حالة وجود نصٍّ نظامي خاصّ يجيز ذلك. وبالتالي فإنَّ هذا الالتزام هو التزام بتحقيقِ نتيجة وليس التزامًا ببذل عناية. وجدير بالذكر أنَّه في حال نشوء نزاع ما، في ظلِّ وجود اتفاق التحكيم، وترتَّب على إثره قيام أحد الأطراف باللجوء إلى القضاء مباشرة، للفصل في هذا النزاع، فإنَّ المحكمة في هذه الحالة سوف تقضي بعدم جواز النظر في الدعوى، إذا دفع المدَّعى عليه بذلك، نظرًا لوجود اتفاق تحكيم بين الأطراف المعنيَّة. على سبيل المثال فقد نصَّت المادة الحادية عشرة من نظام التحكيم على أنَّه: «يجب على المحكمة التي يُرفع إليها نزاع يوجد في شأنه اتفاق تحكيم، أن تحكمَ بعدم جواز نظر الدعوى، إذا دفع المدَّعى عليه بذلك قبل أيّ طلب أو دفاع في الدعوى». وختامًا أود الإشارة إلى مسألة مهمة، وهي جواز اتفاق الأطراف المتنازعة- أثناء نظر النزاع أمام الجهات القضائيَّة- على إحالة النزاع إلى التحكيم بديلًا عن القضاء. وفي هذه الحالة تقومُ المحكمة التي تنظر الدعوى بإحالة الدعوى إلى التحكيم. وفي هذا الخصوص نصَّت المادة الثانية عشرة من نظام التحكيم السعودي على أنَّه: «مع مراعاة ما ورد في الفقرة (1) من المادة التاسعة من هذا النظام، إذا تمَّ الاتفاق على التحكيم أثناء نظر النزاع أمام المحكمة المختصَّة، وجب عليها أن تقرِّر إحالة النزاع إلى التحكيم».