تقول الحكاية إن في الغابة شجرة «تنوب» صغيرة جميلة، كانت دائما تتمنى أن تكبر سريعا لترحل بعيدا عن الغابة، أغرقت نفسها بالتفكير الطويل لتحقيق هذه الأمنية، لم تكن تنعم بالنسيم العليل وطعم الماء البارد وأشعة الشمس الذهبية والأصدقاء الذين يُحيطون بها، بل لم تكن لتطرب لأصوات أطفال المزارعين وهم ينشدون بمرح، ولم تكن تأبه لمديحهم عندما يقولون: هذه الشجرة الصغيرة رائعة الجمال، بل كانت تردد دائما وبأسى: ليتني كنتُ شجرة ضخمة كبقية الأشجار من حولي أمدُ فروعي بعيدا فتأتي الطيور لتقف على أغصاني وتُعشش على فروعي. «شجرة التنوب» لم تكن تستمتع بأشعة الشمس الذهبية ولا بجمال نسيم الفجر وزقزقة العصافير ولا بتلك السحب البيضاء التي تُزين سماءها ولا بصوت غدير النهر الجاري، أشغلت نفسها بالتفكير السقيم: (الشيء الممتع الوحيد في هذه الحياة هو أن أكبر، فمتى أكبر يا ترى)؟! كانت الشمس والهواء كثيرا ما يقولان لها: (استمتعي بنا، واستمتعي بشبابكِ وأنتِ هنا في هذا المكان المفتوح)، لم تكن الشجرة تعرف من الحياة ومفاجآت الأيام إلا القليل القليل، فمن شدة تفكيرها وسخطها على نفسها كثيرا ما كانت تعاني من «صداع اللحاء» وهو مؤلم للشجر مثل صداع الرأس عند البشر!. مضت الأيام وكبرت الشجرة وامتدت فروعها، وأصبحت مطمع الحطابين الذين سرعان ما قاموا بقطعِها إلى قطعٍ صغيرةٍ تحولت بعدها إلى كومة كبيرة على الأرض، وصارت حطبا يشتعل بقوةٍ تحت غلاية الحليب الكبيرة، عندها أفاقت من سباتٍ عميق، وبدأت تتنهدُ بعمقٍ فتخرج مع أنفاسها زفراتٍ حارةٍ، كلُ زفرةٍ كانت أشدُ من حرارة «فم تنين» أحرق اللهيب جوفه، فقالت في نفسها: (إذا كلُ شيءٍ قد انتهى)! وبدأت تذكر كل شيءٍ جميل: شبابها النضر في الغابة، والشمس والسحب وتغريد الطيور ولهو الأطفال وغناء الفلاحين، كل شيء من حولها كان في الماضي جميلا، لكنها لم تكن لتستمتع بهذا كلِه، أشغلت نفسها بمستقبلٍ هو آتٍ لا محالة (متى أكبر)؟!! لم تُدرك أنها ضيعت الكثير الكثير، فاتها أن تعيش ليلة شتاءٍ باردة مع النجوم البراقة في السماء، وفاتها أن تستمتع بأحاديث الناس الذين كانوا يجلسون إلى جوارها يهمسون ويضحكون ويتسامرون، فبدأت تخبو شيئا فشيئا حتى أصبحت رمادا، فذهبت بلا عودة، ومعها انتهت حياة كان من الممكن أن تُصبح هي «الأجمل» في ليالي صيف وشتاء وربيع وخريف الغابة! هذه هي شجرة «التنوب» فماذا عنا نحن؟!!. كثير منا هو شجرة «التنوب»، يكون جسده في مكان وعقله يسكن مكانا آخر، ففي أيام العمل نتطلع لإجازة نهاية الأسبوع لنرتاح ونلعب وننام كما نحب، ولكن ما إن يأتي يوم الإجازة حتى تذهب عقولنا إلى العمل، وربما نكون في حالة الصلاة والعبادة ولكن أفكارنا تجول في أماكن بعيدة عن الخشوع، حتى ونحن نُعيد قراءة حكاية ما قبل النوم لأطفالنا للمرة الرابعة نجد أنفسنا مشغولين بشيء نريد أن نتمه، نحن نتظاهر بالحضور والحقيقة أننا (غائبون)!. للحياة دورة تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت ثم البعث وهناك دورات الفصول الأربعة واكتمال القمر واختفاؤه وفي كل لحظة يوُلد شيء جديد في حياتنا، ولكل مرحلة جمالها وسرها، وما بين الدورتين دورات ودوائر كثيرة تصغر أحيانا وتكبر أحيانا أخرى إذ تنشأُ علاقة وتنتهي أخرى ونبدأ مشروعا وننتهي من آخر. يقول الكاتب/ ريتشارد تومكينز: لسنا في حاجة لوقت أطول بل لرغبات أقل، فما زلنا نريد أن نعرف كل شيء ونعمل كل شيء، بينما الأجدر بنا أن نغلق الهاتف المحمول وأن نترك الأطفال يلعبون بحرية وأن نقرأ ونسافر أقل وأن نضع حدودا لأنفسنا، إن طبيعتنا اللاهثة تدفعنا للتصرف كالأطفال الأشقياء، فها نحن نطلب المزيد والجديد والأفضل حتى يهب من داخلنا شيء يقول لنا بقوةٍ (كفى) وإذا لم نكن نملك القوة الداخلية لرسم حدودٍ لأنفسنا فإن الظروف الخارجية ستجبرنا على ذلك، فثمة شقوق يمكن أن تتسرب منها الأشياء وأعصابنا ليست دائما تحت السيطرة وعندها سنواجه تدهورا في إحدى نواحي حياتنا كالصحة أو علاقة إنسانية مهمة أو حتى عملنا نفسه!. وقفة تأمل: هذه الشجرة لم تعش مطلقا، وهذا ما يجعل زفرتها في النهاية زفرة مأساوية ونحن على الإطلاق غيرمضطرين لارتكاب الخطأ نفسه، ولسنا مضطرين أن نهدر اهتمامنا وطاقتنا في أشياء تزعجنا أو تجعلنا ساخطين على حياتنا، وخير من ذلك هو أن ننخرط في الحياة ونسلِم أنفسنا لشيء يستحق الإنجاز، ساعتها ستكون زفرتنا الأخيرة تعبيرا عن الرضا العميق وعن ثقة بأننا عشنا الحياة، والأهم بأننا لسنا «كشجرة التنوب» في الختام: لعل هذا من أجمل ما قدمه/ ستيفن كوفي لقرائه (بتصرف وبإضافة من قلم كاتبة المقال).