ظلّ السؤال السكاني حاضرًا في الجدل التنموي منذ قرون: هل كثرة السكان عبءٌ يلتهم الموارد، أم قوةٌ قادرة على دفع عجلة التنمية؟ وقد انقسمت الرؤى حول هذه المسألة إلى اتجاهين متعارضين؛ اتجاهٍ قديم ربط بين الزيادة السكانية والمجاعة والفشل التنموي، واتجاهٍ آخر يرى أن الإنسان هو جوهر التنمية ووقودها الحقيقي. غير أن الوقائع التاريخية والخبرات العملية أثبتت أن المشكلة لا تكمن في عدد السكان، بل في كيفية إدارتهم. فدولٌ شهدت نموًا سكانيًا كبيرًا كالصين والهند والبرازيل تمكنت في الوقت ذاته من تحقيق قفزات اقتصادية هائلة، لأن الزيادة السكانية ترافقت مع استثمار واعٍ في التعليم، والعمل، والإنتاج. وعلى النقيض، تواجه دول متقدمة اليوم، مثل أوروبا واليابان، أزمة حقيقية بسبب شيخوخة السكان وتراجع أعداد القوى العاملة، حتى بات العامل الديموغرافي قضية أمن قومي. ويعزز هذا المعنى الخطاب القرآني والنبوي، الذي قدّم الكثرة المؤمنة العاملة بوصفها نعمةً ومددًا للأمم، لا عبئًا عليها. فالقرآن الكريم يربط بين الكثرة والقوة والرزق، ويجعل العنصر البشري سببًا في النماء والعمران، قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾، وقال سبحانه مخاطبًا المؤمنين: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ... فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. كما تحث السنة النبوية على التكاثر بوصفه عنصر قوة للأمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم»، وذلك شريطة أن يكون الإنسان عنصرًا فاعلًا في البناء لا معطّلًا في الهدم. وفي السياق العربي، نجد في بعض الدول مثالًا واضحًا على الخلط بين المشكلة والحل؛ فبرغم تراجع معدلات النمو السكاني خلال السنوات الأخيرة إلى مستويات غير مسبوقة، لم تتحسن مؤشرات التنمية، بل استمر التراجع الاقتصادي، وارتفعت معدلات الدين والفقر. وهذا يؤكد بوضوح أن الأزمة ليست في عدد المواليد، بل في السياسات، وسوء التوزيع الجغرافي للسكان، وضعف الاستثمار في الإنسان تعليمًا وتأهيلًا وتشغيلًا. إن اختزال التنمية في خفض عدد السكان لا يعكس عمقًا في الحل، بل عجزًا في الرؤية. فالسكان قد يكونون نعمة أو نقمة، تبعًا لكيفية إدارتهم. فإذا نُظر إليهم باعتبارهم عبئًا، أصبحوا كذلك، وإذا عوملوا بوصفهم موردًا إستراتيجيًا، صاروا محرّكًا للنمو ورافعةً للاقتصاد. خاتمة؛ ليست الزيادة السكانية هي العائق الحقيقي أمام التنمية، بل السياسات التي تفشل في تحويل الإنسان من مستهلك إلى منتج. فالتنمية تبدأ حين نغيّر نظرتنا إلى السكان: من مشكلةٍ يُراد تقليصها، إلى ثروةٍ يجب بناؤها وتنميتها. وعندها فقط، تتحول الكثرة من عبءٍ ثقيل إلى نعمةٍ فاعلة، ومن رقمٍ في الإحصاءات إلى قوةٍ تصنع المستقبل.