لم تؤت جهود من حاولوا لفت الانتباه إلى خطورة ارتفاع معدلات النمو السكاني في المملكة أُكُلَها، لأن الخطاب الديني السائد لا يساعد على تكريس الظاهرة من زاوية العادات والتقاليد فحسب, بل إنه يحاول شرعنتها دينياً بكل ما يتوافر عليه من ظاهرة صوتية. ومن تحت عباءة تلك الشرعية التي يتوهمها, أو يصطنعها بمعنى أصح, فإنه يحارب كل محاولة للدعوة إلى تنظيم النسل, ناهيك عن الدعوة إلى تحديده. والشرعية التي يصطنعها الخطاب الديني في هذا المجال نابعة من فهم انتقائي حرفي للنص من جهة, ومجرِّد له-أعني النص- من حمولاته التاريخية من جهة أخرى. الانتقائية والحرفية النصية, ثم "اللازمنية" التي تتسم بها بنية الخطاب السلفي عموماً في تناوله لكافة المسائل, ومنها مسألة تنظيم النسل, أبقته مسجوناً في سرداب الخرافة, مُشرْعِناً للتواكل والدعة والسكون, بادعائه أن الله تعالى تكفل برزق الجميع, عطفاً على قوله تعالى:" وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها". وإذ سألتهم, كيف تموت كل تلك الفئام من البشر جوعاً على قوارع الطرق, أجابوك بأنها حكمة الله, أو ربما تجرأ أحدهم بالقول إن ذلك بسبب ذنوبهم,أو لأنهم غير مسلمين!. إن الخطاب الديني السائد يلح على تمرير فكرته المرجوحة الداعية إلى مزيد من الإنجاب دون مراعاة للسياقات المعاصرة التي تختلف,سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وديموغرافياً عن السياقات الماضية التي كانت الدعوة فيها لزيادة النسل مبررة, لكنها مشروطة بشروطها التاريخية. إن بنية هذا الخطاب المفلس لا تدرك أن الله تعالى خلق العالم بما فيه الإنسان على نسق عقلاني مطرد, قوامه ارتباط الأسباب بالمسببات على نحو كلي وضروري لا يتخلف ولا ينفصم,"سنة الله التي قد خلت من قبلُ ولن تجد لسنة الله تبديلا", هذه السنن(=قوانين الطبيعة) لا تحابي أحداً, مسلماً كان أو غير مسلم. فمن لم يأت بالأسباب فلن يُؤتى المسببات. ومن قبلُ أكد فيلسوفنا العربي الكبير(أبو الوليد ابن رشد) أن العلم ليس شيئاً غير إدراك الأسباب في ارتباطها العضوي بالمسببات. نعم ما من دابة في الأرض ومعناها ينصرف إلى كل ما يدب على الأرض بما فيه الإنسان إلا تكفل الله تعالى برزقها عندما تتوسل الأسباب الصحيحة الموصلة إليه حتما,( والصحة هنا ليست صحة دينية أو مذهبية, أو توهم قدسية أمكنة أو شواخص, بل هي صحة طبيعية أو علمية أو اجتماعية) . الحيوانات التي تتصرف بوحي من غريزتها تعرف هذه المسلمة جيداً فلا تستكين انتظاراً لمن يلقمها رزقها, بل تسعى إليه بكل قواها. ولعل من أهم تأمين أسباب الرزق للناس في هذا السياق الزمني الذي يتسم بشروط موضوعية تختلف جذرياً عن شروط السياقات الزمنية القديمة, كبحُ جماح التضخم السكاني الذي تتجه بوصلته صوب الانفجار الشامل. كيف يشرعن الخطاب الديني السائد للقنبلة السكانية الموقوتة؟ الجواب نجده في الآلية البلهاء الصماء البكماء التي يستنبط بها من حديث منسوب للنبي صلى الله عليه وسلم, مضمونه:"تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة", ما يدعم رؤيته الداعية إلى مواصلة السباق الخاسر في كتابة فصول قصة الأفواه والأرانب السعودية!. وهذا الأثر إن صح فهو معيار جزئي زمني يجب مَوْضعته في سياقه التاريخي حيث قلة عدد المسلمين مقارنة بأعداد أعدائهم آنذاك. أما عندما نخرج من فضاء الزمني إلى فضاء اللازمني, حيث صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان, فلا مناص من إعمال المعيار الكلي الذي جاء به القرآن وصدقته السنة النبوية, أعني به معيار النوعية لا الأكثرية. لقد ذم القرآن الكريم استصحاب معيار الأكثرية عند التقييم الجمعي في أكثر من آية, منها قوله تعالى:" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة", وقوله جل شأنه:"ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين", وقوله:"وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله", وقوله :"وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين". كما ذمته السنة النبوية الصحيحة بقوله صلى الله عليه وسلم": يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها, فقال قائل : أمِن قلة نحن يومئذ ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير, ولكنكم غثاء كغثاء السيل". هاهنا إذاً معيار إسلامي كلي عابر للزمان والمكان قوامه التركيز على (نوعية) الأفراد لا عددهم, عند تقييم فاعلية العنصر البشري في عملية التنمية. ومع ذلك, فإن الخطاب الديني السائد يلح على تمرير فكرته المرجوحة الداعية إلى مزيد من الإنجاب دون مراعاة للسياقات المعاصرة التي تختلف,سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وديموغرافياً عن السياقات الماضية التي كانت الدعوة فيها لزيادة النسل مبررة,لكنها مشروطة بشروطها التاريخية. ولقد أنتجت هذه الدروشة في التعامل مع النصوص عموما, ومع ما يخص مسألة التناسل خصوصا, وضعاً أصبحت بفضله المرأة ما أن تخرج من نفاس حتى تدخل في آخر!. بل إن حضور المرأة في دائرة الاهتمام, سواء من وجهة ذكورية, أو حتى أنثوية(=نظرة المرأة لنفسها أو لبنات جنسها) محصور في قدرتها على الإنجاب, فإذا فقدت تلك القدرة لسبب أو لآخر, خرجت من بؤرة الضوء إلى غسق العتمة, وحكم عليها بالغياب المعنوي, تمهيداً لغيابها الحسي القريب!. من جهة أخرى,فالخطاب الديني السائد لا يكتفي بمصادرة وسائل محاربة البطالة فحسب, بل إنه دخل مؤخراً على خط وضع العراقيل أمام من لا يريدون أن يكونوا عالة يتكففون الناس. ترى بعض سدنة ذلك الخطاب وقد جلسوا متكئين على أرائكهم, والنعم تجري من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أحدهم يتمعر وجهه عندما يقطع الطريق على نسوة أردن إعفاف أنفسهن ومن يَعُلْنَ بالضرب في الأرض طلباً للرزق الحلال!. ولما صدَرَ الأمير خالد الفيصل عن همة مسكونة بتوفير مصادر رزق إضافية للسعوديين في حلق تحفيظ القرآن الكريم بالمنطقة الغربية, سلقته ألسنة بعض المرجفين بألسنة حداد موغلة في القذاعة. والعجب لا ينقضي عندما تنزع حواضن الفتاوى التي يطلق عليها تجاوزاً, معتدلة,و التي يعول عليها في أن تكون كوابح لمحاربة الحواضن المتشددة, إلى استخدام ذات الآلية التي تستخدمها الأخيرة لتسويق رؤاها المتشددة. سائل موهوم أو مجهول أو معلوم يسأل:"ما رأي فضيلتكم في من يعمل في بنك يتعامل بالربا ويحارب الله ورسوله ويصد عن ذكر الله وعن السبيل, والله تعالى توعد المرابين بقوله(فأذنوا بحرب من الله ورسوله)!". ولأن مثل هذا جواب على هيئة سؤال مصطنع, فإن إجابة المستفتى لن تخرج عن التالي:"لا يجوز العمل في مثل هذه الأماكن لأنه من إعانتهم على باطلهم. والمال المأخوذ من هذا العمل سحت, ومن يأكل منه فكأنما يدخل في جوفه نار جهنم". ثم لا يبالي هذا المفتي وأضرابه بأي واد هلك المستضعفون!. لابد لنا, لكي نخطو الخطوة الأولى نحو العبور من عنق زجاجة التخلف الذي يضرب في ساحتنا بسهم وافر,أن نتجاسر بالاعتراف بأن المشكلة تبدأ وتنتهي في ساحة الخطاب الديني. وأن الجذور التي تؤسس بنية هذا الخطاب لا تترك مجالاً للقول بأن ثمة متشددين ومعتدلين فيه. وبالتالي,فإن الفرق بين الطرفين- إن وجد- لا يعدو أن يكون فرقاً في الدرجة ليس إلا, أما الجذور التي يصدر عنها المتشددون والمعتدلون فواحدة, وعبور عنق الزجاجة يتطلب الاشتباك مع تلك الجذور التي تعتبر المرأة رجساً أو فسقاً أهل لغير الله به, مما يوجب التخلص منه بوأده, معنويا على الأقل. البطالة مشكلة من مشاكل عديدة يخلفها الانفجار السكاني الهائل الذي نعايشه في سياقنا المحلي. ومقاربتها-أعني البطالة- من منظور تنموي علمي لن يكون بالمطالبة بمزيد من إحداث الوظائف, فهذا المطلب لا يعدو أن يكون ساذجاً طفولياً حين لا يعي من أبعاد المشكلة إلا ذلك البعد المتعين المحسوس, وإنما يمكن مقاربتها تنموياً بإحلال مجموعة من البدائل العلمية,التي يكون على رأسها,إن لم تكن له الأولوية عليها جميعا, توطين فكرة الحد من هذا السباق المروع نحو إشعال فتيل القنبلة السكانية التي تتراءى لناظريها ليس من بعيد, بل من قريب جداً, أقرب إلى من ألقى السمع وهو شهيد من شراك نعليه!.