إن جميع دول العالم التي تعاني من هذه المشكلة أدركت خطرها الأكيد، المتحقق علميا بلغة الإحصاء التي لا تكذب، وقد وضعت خُططا واضحة للتصدي لها، وشرعت منذ أمد للتثقيف العام بخطرها، إلا أننا لا نزال – للأسف - في ما قبل الخطوة الأولى في هذا المضمار. أي أننا لا نزال لم نطرحها كمشكلة خطيرة تحتضن في رحمها الكثير من المشكلات كثيراً ما تحدثت في أكثر من مناسبة عن خطر الانفجار السكاني علينا؛ من حيث كونه كفيلا بتحطيم جميع المنجزات التنموية الراهنة، وتعطيل أية إمكانية لتحقيق التنمية الواعدة. أتحدث كثيرا – وسأظل أتحدث - عن هذا الموضوع؛ لخطورته من ناحية؛ ولزيادة الخطورة من حيث عدم الوعي به - كما يجب – من ناحية أخرى. فأخطر ما في الموضوع، هو أننا لا نتعامل معه بالجدية التي تتناسب مع مستوى خطورته. نعم، كثيرون تحدثوا، وبعض المؤسسات التنموية المعنية أشارت إشارات خاطفة إليه في مناسبات متفرقة، ولكن كل ذلك لا يشي بأننا نعي حجم الكارثة السكانية التي تنتظرنا؛ إذا ما تركنا الفوضى التناسلية/ التكاثرية تعيث فسادا في الحاضر والمستقبل. وكما هي العادة، نتأخر كثيرا في علاج المشكلات المزمنة، تلك المشكللات التي لا تأتي فجأة (لأنها نتاج تراكمات وترسبات تفعل فعلها السلبي في مدى زمني واسع)، كما أنها إذا ما استفحلت تحتاج لعلاج في مدى زمني واسع أيضا. إنها كالأمراض المزمنة، تزحف ببطء؛ بحيث يتعذر رصدها في معظم الأحيان، وعندما تضرب ذات فجأة؛ يكون الوقت قد فات، ولا يبقى إلا التعايش معها في علاج طويل المدى، يذهب بكثير من الطاقات الممكنة، وفي حال الأمراض المجتمعية، قد يذهب العلاج المتأخر - فضلا عن الإهمال!- بمستقبل أجيال وأجيال. إن جميع دول العالم التي تعاني من هذه المشكلة أدركت خطرها الأكيد، المتحقق علميا بلغة الإحصاء التي لا تكذب، وقد وضعت خُططا واضحة للتصدي لها، وشرعت منذ أمد للتثقيف العام بخطرها، إلا أننا لا نزال – للأسف - في ما قبل الخطوة الأولى في هذا المضمار. أي أننا لا نزال لم نطرحها كمشكلة خطيرة تحتضن في رحمها الكثير من المشكلات، سواء أكانت مشكلات تُنتجها بالأصالة، أم مشكلات تمنحها ما تحتاجه من القوة والشيوع؛ بحيث تحولها من مشكلات عابرة يمكن احتمالها، إلى إشكاليات مزمنة، كفيلة بتحقيق الإعاقة الشاملة الدائمة، لمجتمع لا يزال نامياً، إن لم أقل نائما!. وليكون الموضوع أكثر وضوحا وتحديدا، خاصة وأنه موضوع جماهيري بالدرجة الأولى، يمكن تناول الموضوع من عدة زوايا مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالموضوع ولعل أهم ما يجب التركيز عليه ما يلي: 1 الوعي بالخطر، ومن ثم، التوعية بالخطر. فلا يمكن أن يتحرك أي أحد لمواجهة خطر ما؛ ما لم يكن واعيا بحجم الخطر. وحجم الخطر، ومستوى الوعي به، هما ما يحدد درجة الاستجابة ونوعها. ومن هنا، فالجاهل الذي لا يعرف خطر الجهل مثلا، ومن ثم قيمة العلم، لا يمكن أن يتحمل أعباء اكتساب العلم الذي قد يستنزف الصحة والوقت والمال. في موضوعنا: الانفجار السكاني، للأسف، لا يزال الوعي بخطره غائبا. أسباب هذا كثيرة، ومن أهمها: أنها مشكلة غير مسبوقة، أي لم يكن المجتمع يعاني منها من قبل، لا في واقعه ولا في تاريخه، فهي بعيدة عن مجال الوعي المباشر للأغلبية الساحقة من الناس. إضافة إلى ذلك، فالثقافة التقليدية تقف حاجزا يمنع من النظر إليها على نحو واضح، أي أنها ثقافة تحجب الرؤية، بل هي ثقافة تزيّفها، عندما تُعلي من كثرة الإنجاب. ولا يخفى أن كثرة العيال، لا تزال في الوعي التقليدية منْقبة، ومدعاة للفخر. وهذا يجعلنا نبتعد – متأخرين - بمرحلتين عن الوعي بالخطر السكاني. 2 المشاعر الطفولية الساذجة، ذات البعد الوطني، أو القومي/ العربي، أو الأممي/ الإسلامي. فكثير ممن يتعاطى الفكر (فضلا عن غيرهم من عوام التقليدية) يحس بالانتشاء والفرح بالكثرة، أيا كانت هذه الكثرة، وأيا كانت مآلاتها. طبعا، هذه مشاعر طفولية، لا تفكر بما وراء المباشر والظاهر. وهي بطبيعتها تعجز عن مَوْضعة هذه الكثرة في سياقات تتجاوز السياق العاطفي. لهذا، فدائما ما نسمع الفخر بأننا أمة المليار ونصف المليار. لكن ماذا حقق هذا المليار والنصف، وما أهمية هذا الرقم الكبير في سياق النهوض، ومن ثم الحضور المؤثر أمميا، هو أمر لا تستحضره مشاعر الفخر الكاذب والاعتزاز الأجوف. 3 النصوصية في قراءة النصوص. وهذه إشكالية تأتي من خلال البعد الديني لمشكلة التناسل أو التكاثر الفئراني. وتكمن الإشكالية في هذا، أن الذين يتولون - في الغالب – التوعية الدينية، ليسوا من المستنيرين دينيا، بل على العكس، هم من أصحاب الرؤى التقليدية، إنهم الذين لا يزالون يفهمون الدين كنصوص متعالية، لا يربطها بشروط الواقع أي رابط. فكأن هذه النصوص معلقة في الفراغ؛ لتعمل في الفراغ. إن هذه التقليدية التي تُحبّذ التناسل لمجرد التناسل، والتكاثر لمجرد التكاثر، ليست تقليدية خاصة بالدين الإسلامي، وإنما هي موجودة في كل منظومة تقليدية منغلقة على رؤاها الخاصة تجاه العالم. ولهذا، نرى الكنائس الكاثوليكية المتشددة تقف ضد موانع الحمل، وضد الإجهاض بالطبع. وهي مواقف نابعة من رؤى تقليدية منغلقة على منتج ثقافي محدود، أكثر منها دينية متصلة بالنصوص الأساسية. يستشهد التقليديون المعارضون لتحديد النسل ب(تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم). وهذا النص - إن صح - لا يمكن إلا أن يكون في إطار خاص لهدف خاص، أي عندما كان المسلمون قلة؛ لأن إطلاق النص، يُعارض نصوصا أخرى كثيرة، تم فيها تقديم الكيف على الكم، بل تم رفض الكثرة كمعيار للصواب والخير في أكثر من موضع. مثلا، فيما يخص موضوعنا تحديدا، نجد حديث الغثائية: (بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء)، وهو واضح الدلالة على أن الكثرة قرينة الغثائية المذمومة. بل إن الكثرة والتكاثر ترد في القرآن الكريم على هذا النحو: (ألهاكم التكاثر* حتى زرتم المقابر)، و(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا) و(كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) و(ثلة من الأولين* وقليل من الآخرين) و(ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) ..إلخ الآيات التي تمنح القلة امتيازا على الكثرة. إذن، ليست المشكلة هنا نصوصية، وإنما هي عقلية، أي في كيفية قراءة هذه النصوص على ضوء الواقع. صحيح أنه بالشرع وبالعقل، تراد الكثرة؛ عندما تكون مقرونة بالنوعية، أي عندما يقترن الكم بالكيف. لكن، في معظم السياقات يتعذر هذا. بل في سياق التربية المعاصرة، المشروطة بشروط العصر، يستحيل التوفيق بينهما. فلم تعد الرعاية مجرد توفير الطعام والشراب والمسكن والملبس، بل هذه أقل التكاليف المادية والتربوية الواجبة على الوالدين، وإنما يحتاج الإنسان في هذا العصر إلى وفرة مادية، وتفرغ وقتي وذهني، واستعداد نفسي؛ كي يفي باحتياجات الفرد منذ الولادة، وحتى مرحلة الاعتماد على النفس. هذا الواقع التربوي المعقد يدركه كثيرون، ممن هم معنيون بصناعة مستقبل أفضل لأولادهم. ولهذا نجد أن كثرة التناسل، وتعدد الزوجات، ظاهرة تنتشر في الشرائح الاجتماعية المتدنية ثقافياً ومادياً. بكل وضوح، يمكنك أن تلاحظ أن الناجحين في مجال إدارة الأعمال، والمشتغلين بالشأن الثقافي والعلمي، والمعنيين بالشأن العام، هم أقل شرائح المجتمع إنجابا. وهذا راجع إلى كون الارتقاء بمستوى الوعي يقود الإنسان إلى الوعي بأن مجيء فرد إلى الحياة ليس مجرد خضوع آني لرغبة عابرة، وإنما هو مسؤولية عُمر، مسؤولية أجيال، على المستوى الفردي وعلى المستوى الوطني. هنا نصل إلى ملمح مهم من ملامح الكارثة السكانية، والمتمثل في أن المكثرين من التناسل، هم من الفئات المتدنية في مستواها المادي والثقافي، وبناء عليه، فعما قريب، ستكون الكثرة المهيمنة اجتماعية، بيئة بهذا المستوى، أي بذات المستوى الذي أنتجها. وبالتالي فإن الكثرة من أبنائنا في المستقبل القريب، سيكونون نتاج تربية أمية ثقافية، بل وربما أمية قرائية، وسيواجهون الحياة بقدرات مادية معدومة أو شبه معدومة. ما يعني أن فرصتهم في تحسين أوضاعهم ستكون أقل من غيرهم، خاصة وأنهم يتنافسون – من حيث هم كثرة – على موارد لا تفي بتغيير أحوالهم جميعا بالمستوى المطلوب. إن كل هذا سيفجر أزمة البطالة التي ستتسع دائرتها كلما ارتفعت وتيرة التناسل الفئراني، وسترتفع معدلات الجريمة؛ نتيجة الانفلات التربوي من جهة، ونتيجة نقمة الفقير المهمل على المجتمع من جهة أخرى. وسترتفع حدة الأزمة، وستنمو مستقبلا، خاصة إذا ماعرفنا أن مقومات الحياة غير المستنفدة في وطننا شحيحة للغاية، بما فيها المقوم الأساس: الماء. من هنا، يحق لنا التساؤل: إلى أين نتجه بهذا الانفجار السكاني المروّع؟ في اعتقادي أنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن، فإننا نتجه صوب الكارثة حقا، بل نتجه صوب الدمار الشامل للمقومات المادية والمعنوية لدينا. بلا ريب، ستنهار البنى التحتية مهما كان السعي لتطويرها، وستتعذر التربية الإيجابية؛ حتى في حدودها الدنيا، وسيصبح المجتمع - في أغلبه - أشبه بمجتمع القطيع، الذي يلهث وراء لقمة العيش، ثم لا يظفر بها بعد ذلك إلا بالعناء والشقاء، وأحيانا، بالتنازل عن الكرامة الإنسانية ذاتها، وربما يحدث ما هو أفظع!. إن الوضع خطير، ولعل انخفاض أسعار النفط يكون جرس إنذار؛ لنخطط لحياتنا بشكل أفضل، وعلى نحو عقلاني، بعيدا عن الاتكال على رفاهية مؤقتة؛ مهما طالت. لا بد أن نعي أن الانفجار السكاني كارثة ماثلة تتهددنا في المستقبل القريب، فضلا عن المستقبل البعيد. ولخطورة هذا الوضع، فإنني أقترح وجود أنظمة صارمة، تحدد مسألة تعدد الزوجات، وتقف لهذا الانفجار السكاني بالمرصاد. لا ضير أن تكون البداية توعية وتثقيفا بخطورة هذا الطوفان البشري القادم. لكن التوعية وحدها لا تكفي. لا بد من قوانين صارمة؛ لأن المقدمين على التعدد، والمكثرين من التناسل، هم من الشريحة التي لا تعي أبعاد هذه التوعية، بل يستحيل عليها فهم المشكلة أصلا؛ لأنها لا تعي إلا الضرر المباشر – الخاص.