«أبرّ البر أن يبرّ الإنسانُ أرضَه، ومن برّها الإنصات إلى إيقاع طبقاتها» هذه جملة قلتُها للعزيز ياسر الشدّي بعد لقاءٍ جمعني به، وأطلعني فيه على نتائج إنصاته لإرث الجزيرة العربية الغنائي، وقد لحظتُ -وأنا أستمتع بما كتبته يده- أنَّ معظم ألوان التراث الغنائي الجزيري تسير في خطوطٍ يمكن تتبّعها: الحداء هو الجذر الذي ينهض منه الهجيني، والسامري تتغير ألوانه بين عنيزة وحائل والعارضي، وفنّ الزامل يتوالد في صيغِه المتعددة. كلّ هذه الألوان -على اختلافها- تسير في منحنى تاريخي متّصل، لها آباء وأبناء ولها بدايات وانحناءات، لكن وجدتُ إيقاعًا غريبًا هو (الرودمان)، ذلك الفن النادر الذي يُشبه طفرة من طفرات إبراهيم النظّام، أي تلك اللحظة التي ينفصل فيها الشيء عن مسار تراكمه العادي فيظهر بصورةٍ لا تُردّ إلى أسبابها البسيطة. ومن المصادفة أنَّ أغنية محمد عبده (لك الله يا غريب) هي على الرودمان، ويمكن أنَّ أبا نورة اختار للكلمات لحنًا تراثيا يتناسب مع شجون الكلمة وصاحبها فكلاهما غريب و«كل غريب للغريب نسيب» كما يقول امرؤ القيس، وربما كان عبده يُخاطب الرودمان بالرودمان نفسه. الرودمان -بناء على ما قيّده ياسر- «يُدوَّن على ميزان إيقاعي غير مألوف (20/16)» وهو من أطول الأوزان في التراث العربي، وربما لا يكاد يظهر في أي فن عربي تقليدي آخر بهذا الامتداد. هذا الميزان هو ما جعلني أتصوره غريبًا يبحث عن شبيهه في الموسيقى، لكنَّه أعلن تمرده على مفهوم التشابه وقفز من رتابة الأوزان المألوفة إلى بنيةٍ إيقاعية لا تنسجم مع المكان في ظاهره، ولعلها قفزة فوق السائد الجزيري. هذا التمرد والغربة في الرودمان وجماليته المتفردة دعاني إلى توقّع أنَّ الرودمان لا سياق له داخلَ اللحمة الاجتماعية التقليدية في الجزيرة، فإذا كانت الفنونُ الأخرى في الجزيرة تفسَّر بسياقاتها الاجتماعية والوظيفية كالسامري للأعراس والهجيني للعمل والرفيحي للفرح، فإنَّ الرودمان ظلَّ عصيًا على هذا التفسير الاجتماعي، وهذا ما جعلني أقول ربما كانت وظيفته الوحيدة هي الموسيقى لذاتها، الموسيقى التي تتحرر من كل سياقٍ خارجي، لتصير علامة على اللحمة الجديدة من أبناء الجزيرة الذين يرون في التراث قدرة مستمرة على الانبثاق والاختراع، وهنا تتجلّى ما سميتُه (الشطفرة) في إحدى المقالات السابقة، أعني حين يتجاوز الفنُ الحاجةَ والغاية ينبثق كحدثٍ نادر غير قابل للتكرار، ولعلَّ الزمن الجزيري المتدفّق توقّف تحت نخلةٍ ليُنجب لحنًا جديدا وينتظر رطبَ الجزيرة يتساقط عليه، وسيكون الرودمان كاشفًا لحقيقة أنَّ التراثَ ليس بالضرورةِ خطًا متصلًا، بل قد ينهض فجأةً على هيئةِ طفرة، كما ينهض -فيزيائيًا- الفوتونُ ليقفز بإلكترون من مدارٍ إلى مدار دون مرور في المسافة بينهما. الرودمان هو هذا الإلكترون الموسيقي يقفز بين طبقات الأوزان، وقد ينتقل فجأة من مدار إيقاعي مألوف إلى مدار آخر لا سابقة له، لهذا يمكن أن أصفه بأنه (شطفرة التراث السعودي): لحظة انفصال عن قوانين المقام والميزان، أو ربما هي لحظة خرق للمنطق المتدرج لتقول لنا بإمكانية نادرة لانبثاق حياة يومية خاصة، ولعلَّ أجمل ما في الرودمان أنه -على الرغم من طفرته- يفتح بابًا واسعًا لتجديد مفهوم البرّ بالأرض، إذ الالتفات إلى تلك الشقوق التي تتسرب منها حيوات أخرى هي علامة على أنَّ الأرض لها أصواتها التي تُولّدها الأجيال المختلفة. التفاتة: ما الذي فقده الإنسان حين فقد الدهشةَ واندفن في ركام الألفة؟ ربما فقدَ معنى الإبداع في ذاته، ولعلَّ دور الإدهاش الجديد أن يُبرم اتفاقيةً جديدة مع العالم، عالمٍ تنشئه الكتابة لتُخفّف من هرمون الواقع، ذلك الذي يُشبه شيئا تريد تصويره فتقرّب عدستك أكثر فأكثر لتميز هذا الشيء وتكشف جوهره، لكنَّ المفارقة أنك كلما قربت العدسة بهتت الحقيقة. ومن هنا فالمهمة الصعبة للكاتب هي أن يخترع عالما يعيد للإنسان دهشته الأولى.