مع تزايد الشكوك في التزام الولاياتالمتحدة تجاه حلفائها التقليديين، بدأت دول شرق آسيا، وعلى رأسها اليابانوكوريا الجنوبية، في إعادة صياغة إستراتيجياتها الدفاعية عبر الاستثمار المكثف في التكنولوجيا العسكرية. فبين التحديات الديموغرافية والتهديدات الإقليمية والتقلبات في السياسة الأميركية، يبدو أن مستقبل أمن المنطقة يتجه أكثر نحو الابتكار التكنولوجي منه إلى الاعتماد على المظلة الأمريكية. تراجع الموثوقية تشترك طوكيووسيول في بيئة جيوسياسية معقدة، محاطة بالصين وكوريا الشمالية وروسيا. ومع أن تحالفهما مع واشنطن لا يزال قائما، فإن تراجع الموثوقية الأمريكية دفعهما إلى تطوير سياسات أمنية مستقلة نسبيا، تمنحهما قدرة أكبر على التحكم في خياراتهما الدفاعية. هذا التحول يأتي في سياق أوسع يتفق مع تحذيرات الباحث الأمريكي روبرت كاجان في كتابه «الغابة تنمو مرة أخرى»، حيث أشار إلى أن «السلام الأمريكي» بعد الحرب العالمية الثانية قد لا يستمر إذا انسحبت واشنطن من دورها العالمي. وقد جاءت حرب أوكرانيا وهجمات السابع من أكتوبر لتؤكدان أن العالم يدخل مرحلة أكثر تقلبا وأقل استقرارا. الاستثمار في البرمجيات تمثل اليابان النموذج الأبرز لهذا التحول. فبعد عقود من حصر إنفاقها الدفاعي عند حدود 1% من الناتج المحلي الإجمالي التزاما بمادة دستورية تمنع خوض الحروب، اتجهت الحكومة في عام 2022 إلى مضاعفة هذه النسبة إلى 2% بحلول 2027. والأهم أن طوكيو لا تركز فقط على زيادة الأرقام، بل على نوعية الاستثمار، حيث أنشأت وزارة الدفاع حاضنة متخصصة في تطوير تكنولوجيا دفاعية متقدمة، تركز على البرمجيات ذات الاستخدامات العسكرية المبتكرة. الهدف المعلن هو تسريع دورة تطوير الأنظمة الجديدة من الفكرة إلى التنفيذ خلال ثلاث سنوات فقط. وبهذا النهج، تلتف اليابان على القيود الدستورية، وتستجيب في الوقت نفسه لأزمتها الديموغرافية المتمثلة في تقلص أعداد الشباب القادرين على الخدمة العسكرية، فالاعتماد على الأنظمة الذكية والبرمجيات الدفاعية يتيح لها تعزيز قدراتها دون الحاجة إلى جيش ضخم. تصدير الأسلحة كوريا الجنوبية، التي تعاني بدورها انخفاض عدد السكان في سن الخدمة العسكرية، تواجه هذه المعضلة عبر مزيج من التجنيد الإجباري وتطوير الصناعات الدفاعية. وعلى مدى العقد الماضي، أصبحت سول واحدة من أكبر مصدري الأسلحة عالميا، حيث تزوّد دولا أوروبية وآسيوية، مثل بولندا والفلبين وتايلاند، بالإضافة إلى دول متقدمة كبريطانيا والنرويج ونيوزيلندا. لكن التوجه الأبرز يتمثل في الاستثمار بالأنظمة المستقلة والذكاء الاصطناعي الدفاعي. ويشير تقرير صادر عن معهد كوريا لتخطيط وتقدم تكنولوجيا الدفاع إلى أن القدرات الكورية باتت تعادل 82% من القدرة الأمريكية، ما يضعها في المرتبة الثامنة عالميا، متساوية مع اليابان. مستقبل الحروب تؤكد هذه الاستثمارات أن طبيعة الحروب الحديثة لم تعد تُقاس بحجم الجيوش البشرية، بل بقدراتها التكنولوجية، حيث أوضح الخبير الكوري سونغ تاي جونغ: «خط واحد من البرمجيات قادر على تحييد معدات تُقدر بمليارات الدولارات». وهذا الإدراك يدفع البلدين إلى جعل التكنولوجيا قلب إستراتيجيتهما الدفاعية، خصوصا مع تصاعد التهديدات من بكين وبيونغ يانغ وموسكو. الولاياتالمتحدة يبقى العنصر الحاسم في هذا التحول فقدان الثقة في واشنطن. حيث أعادت إدارة ترمب الثانية رسم ملامح العلاقة مع الحلفاء، فارضة رسوما جمركية عالية على دول، مثل الهند، على الرغم من أهميتها الجيوسياسية، ما أثار قلق طوكيووسيول بشأن مصداقية التزاماتها الأمنية. وهذا الشعور انعكس في خطوات عملية، حيث عقد الرئيس الكوري الجنوبي قمة مع رئيس الوزراء الياباني، قبل زيارته الرسمية لواشنطن، في سابقة تشير إلى إدراك الطرفين أن الاعتماد الحصري على أمريكا لم يعد كافيا. واللافت أن المحادثات مع واشنطن ركزت أكثر على المجاملات الدبلوماسية، بينما انصبت المناقشات الثنائية بين سيولوطوكيو على التعاون الدفاعي والذكاء الاصطناعي. نحو شرق آسيوي جديد التحولات الجارية في اليابانوكوريا الجنوبية تمثل بداية لشرق آسيوي جديد، تُبنى فيه القوة الدفاعية على التكنولوجيا لا على الوعود الأمريكية. وفي ظل المتغيرات العالمية، يبدو أن هذه الدول لن تنتظر واشنطن لتحدد مستقبل أمنها، بل ستبني منظوماتها الدفاعية المستقلة، معتمدة على الابتكار التكنولوجي لمواجهة ما يصفه الخبراء ب«الغابة التي تنمو مرة أخرى». أبرز الاتجاهات الكبرى والتحديات المقبلة: الاتجاهات الكبرى: • انتقال اليابانوكوريا الجنوبية من الاعتماد على المظلة الأمريكية إلى بناء قدرات دفاعية مستقلة قائمة على التكنولوجيا. • تصاعد دور البرمجيات والأنظمة المستقلة في تشكيل مستقبل الحروب، مقابل تراجع أهمية الحجم العددي للجيوش. • إعادة صياغة العلاقة بين طوكيووسيول عبر تعاون دفاعي وتقني يتجاوز الخلافات التاريخية. • صعود كوريا الجنوبية كمصدر رئيسي للأسلحة عالميًا، مع تنافسها مع اليابان على ريادة سوق التكنولوجيا الدفاعية. • بروز التقارب الآسيوي الداخلي كعامل موازن أمام تراجع الموثوقية الأمريكية. التحديات المقبلة: • استمرار الضغوط الديموغرافية في اليابانوكوريا الجنوبية، ما يفرض الاعتماد المتزايد على الحلول التكنولوجية لتعويض نقص القوى البشرية. • تصاعد التهديدات من الصين وكوريا الشمالية وروسيا، ما يضع المنطقة في سباق تسلح تكنولوجي معقد. • عدم استقرار السياسات الأمريكية وتذبذبها بين الإدارات، ما يضعف الثقة طويلة المدى لدى الحلفاء. • احتمال اندلاع سباق تسلح تكنولوجي عالمي يجعل المنطقة أكثر عرضة للتوترات الاستراتيجية. • تحديات أخلاقية وقانونية متوقعة مع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة في الحروب.