بعد مرور أكثر من نصف قرن على حرب عام 1967 العربية الإسرائيلية وصدور قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي أرسى مبدأ انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الحرب مقابل السلام والأمن، لم يحقق الإسرائيليون والفلسطينيون أي تقدم يُذكر، نحو تحقيق السلام الدائم والعادل. وفي تحليل نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية قال ريتشارد هاس الدبلوماسي الأميركي السابق والرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي إن الوقت قد حان لكسر هذا الجمود، لآن الوقت المتاح لتحقيق تقدم نحو اتفاق دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين يخدم مصالح الطرفين، آخذ في التلاشي بسرعة. وستكون العوائق السياسية والمادية المطلوب تجاوزها للوصول إلى التسوية أصعب من أن يتم تجاوزها خلال فترة قصيرة من الآن. ونتيجة جهودها الخاصة في الغالب، تجد إسرائيل نفسها الآن، في وضع أمني موات، حيث تراجعت التهديدات على طول حدودها وفي المنطقة بشكل كبير، إن لم يكن قد تم القضاء عليها تماما، ولم تكن إسرائيل أبدا في وضع أفضل مما هي عليه الآن لمواجهة التحدي الاستراتيجي الذي تشكله القومية الفلسطينية، والذي سيتطلب ردا ذا أبعاد سياسية وعسكرية، لكن هذا الوضع الجيد لا يمكن أن يدوم إلى الأبد، فرغم وجود صديق في البيت الأبيض لإسرائيل مستعد لدعمها بطرق مهمة، فإن الدعم الأميركي والأوروبي طويل الأمد لإسرائيل غير مضمون، خاصة إذا أصبح المزيد من الأميركيين والأوروبيين ينظرون إليها كدولة منبوذة تحرم الآخرين من حقوقهم، بحسب هاس الذي شغل منصب رئيس إدارة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية في وقت سابق. والآن تواجه إسرائيل خيارا صعبا، فإما أن تسعى بصدق إلى تسوية وتعايش سلمي مع الفلسطينيين، أو أن تخاطر بفقدان الدعم الدولي الذي تتطلبه رفاهيتها على المدى الطويل، ورغم أن حل الدولتين أصبح بغيضا لدى كثير من الإسرائيليين، إلا أنه يبقى الأمل الأمثل لازدهارهم وأمنهم. وإذا كانت إقامة دولة فلسطينية ستكون في صالح الفلسطينيين، فإنها ستكون أيضا في صالح إسرائيل. وقد اقترب الإسرائيليون والفلسطينيون من التوصل إلى اتفاق وفق مبدأ أرض مقابل سلام في أكثر من مناسبة. لكن على مدار العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، فشلت الدبلوماسية. ويرى هاس أن الفشل في الوصول إلى اتفاق يعود في جزء كبير منه إلى عدم رغبة القادة الفلسطينيين، سواء الرئيس الراحل ياسر عرفات، أو خلفاءه، أو عدم قدرتهم، بسبب ضعفهم السياسي، على قبول ما عرضته إسرائيل بشأن الحدود، ووضع مدينة القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. أما معارضة حركة حماس للسلام فكانت ولا تزال أكثر جوهرية، لأنها تتطلب ضرورة قبولها بوجود الدولة العبرية كجزء دائم من المنطقة. والآن أصبح ما كان ممكنا قبل سنوات، بالغ الصعوبة بالنسبة لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويعود هذا إلى حد كبير إلى تغير الوضع على الأرض. فهناك الآن العديد من العقبات أمام السلام -ولا سيما نحو 140 مستوطنة مرخصة من الحكومة الإسرائيلية و200 بؤرة استيطانية غير مرخصة أخرى في الضفة الغربية، وكل مستوطنة وبؤرة استيطانية تجعل تطبيق مبدأ الأرض مقابل السلام وبناء دولة فلسطينية قابلة للحياة أشد صعوبة؛ وكل مستوطن إضافي يخلق مقاومة سياسية لمثل هذه المقايضة ويرفع التكاليف الاقتصادية لإعادة توطين الناس. كما أن المشهد السياسي في إسرائيل تغير.. فقد تضاءل وجود أحزاب اليسار، وتعززت أحزاب اليمين الرافضة للاعتراف بحقوق الفلسطينيين، وهذا التحول السياسي مستمر منذ عقود ولكنه تسارع بسرعة منذ هجوم حركة حماس المسلح على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، وقد عكست حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الائتلافية، التي تعتمد على دعم ما يمكن وصفه باليمين الديني القومي المتطرف، هذا التحول وسرعته. ومع ذلك، سيكون من الأفضل للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء وجود دولة مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة، يسكنها الفلسطينيون ويديرونها بأنفسهم، ولكن بشروط تمنعها من أن تشكل تهديدا أمنيا لإسرائيل. فوجود دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة يمكن أن يقلص مخاطر العنف الذي يستهدف إسرائيل، بطرق لا تستطيعها قوات الاحتلال الإسرائيلي. فالمسلحون الفلسطينيون يتصرفون الآن بحصانةٍ شبه كاملة، إذ لا يتحملون أي مسؤولية عن الأرض أو الاقتصاد، وليس لديهم مواطنون مسؤولون عن حياتهم ورفاههم، وفي غياب دولة فلسطينية، من المرجح أن تواجه إسرائيل حربا أبدية. في المقابل، ستواجه حكومة الدولة الفلسطينية المأمولة العواقب العسكرية والاقتصادية لأي هجمات تسمح بها ضد إسرائيل، والتي ستكون في هذه الحالة أعمالا حربية، وكذلك عواقف الهجمات غير المصرَح بها التي تنطلق من داخل حدودها، والمنتظر منها كحكومة ذات سيادة منعها. كما أنه في حالة فشل أو امتناع مثل هذه الحكومة الفلسطينية عن ضمان أمن إسرائيل أو الوفاء بالتزاماتها الدولية، ستحظى اسرائيل بالدعم الدولي لأي تحرك يستهدف هذه التهديدات، كما حدث في أعقاب هجمات 7 أكتوبر، والذي تلاشى بنسبة كبيرة بعد أكثر من 22 شهرا من الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. كما أن قيام دولة فلسطينية مستقلة سيفيد هوية إسرائيل وتماسكها الداخلي، فإسرائيل تضم حاليا نحو مليوني مواطن عربي، وقد يتجه بعضهم نحو التطرف إذا استمرت إسرائيل في إحباط الطموحات السياسية الفلسطينية ومعاملة الفلسطينيين بهذه القسوة. والأهم من ذلك، أن الدولة الفلسطينية ستحرر إسرائيل من خيارها بين أن تكون دولة ديمقراطية أو يهودية: فمنح خمسة ملايين فلسطيني حقوقا متساوية سيهدد يهودية الدولة اليهودية، بينما حرمانهم من هذه الحقوق يهدد ديمقراطية الدولة. ومن الواضح أن جميع الدلائل تشير إلى أن إسرائيل ستحرمهم من هذه الحقوق، وهو اتجاه لن يؤدي إلا إلى زيادة عزلة إسرائيل الدولية. في الوقت نفسه سيساعد انفتاح إسرائيل على قبول وجود دولة فلسطينية على تجنب وضعية الدولة المنبوذة عالميا، وهي وضيعة تترسخ يوما بعد يوم كرد فعل على حربها في غزة. كما سيقلل هذا الانفتاح خطر فرض عقوبات اقتصادية أوروبية مشددة عليها، ويكبح جماح انصراف الأميركيين المتزايد عن دعم إسرائيل، وهو اتجاه قد يعرض الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل للخطر مع مرور الوقت، كما أن انفتاح إسرائيل على قيام الدولة الفلسطينية قد يقلل معاداة السامية عالميا. لكن قيام دولة فلسطينية سيحتاج إلى مساعدة من الولاياتالمتحدة وأوروبا والدول العربية، والأهم سيحتاج إلى أن يؤكد الفلسطينيون بالكلام والفعل أنهم مستعدون للعيش في سلام مع إسرائيل. وإذا كانوا مستعدين لذلك فستكون هناك فرصة لتطور السياسة في إسرائيل، ناهيك عن أنه سيكون على إسرائيل التجاوب بطريقة جيدة مع التوجه الفلسطيني السلمي. وأخيرا فإن عدم قيام دولة فلسطينية يعني أن إسرائيل ستعيش في حالة حرب إلى الأبد.