تعد مدرسة دار التوحيد بالطائف إحدى اللبنات الأولى في مسيرة التعليم النظامي بالمملكة، ورمزًا لرؤية الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- في بناء مجتمعٍ واعٍ قائم على العلم والمعرفة، هذه المدرسة التي انطلقت عام 1364ه، شكّلت نواة للتعليم الشرعي المنظم، وأسهمت في تخريج أجيال من العلماء والقضاة والمربين الذين تولّوا قيادة النهضة الفكرية والإدارية في البلاد. وأكدت دارة الملك عبدالعزيز أن الحديث عن مدرسة دار التوحيد في الطائف يعيد الذاكرة إلى مرحلة مفصلية في مسيرة التعليم النظامي بالمملكة، وإلى رؤية الملك المؤسس -رحمه الله- الذي أدرك منذ وقت مبكر أن التعليم يمثل الركيزة الأساسية لبناء المجتمع وتقدّمه، فحرص على تطويره وإتاحته لأبناء الوطن في مختلف مناطقه. وأوضحت الدارة أنه في الوقت الذي شهدت فيه المملكة افتتاح المدارس النظامية التي تقدم التعليم العام، حرص الملك عبدالعزيز على إنشاء مدارس متخصصة لتأهيل الكفاءات الوطنية في مجالات محددة تواكب احتياجات الدولة آنذاك؛ إذ تأسس عام 1345ه / 1926م المعهد العلمي السعودي لإعداد المعلمين للتدريس في المراحل الابتدائية، ثم أُنشئت مدرسة تحضير البعثات عام 1356ه / 1937م لتأهيل الطلاب للدراسة في التخصصات العلمية والتقنية تمهيدًا لابتعاثهم إلى الخارج، وفي عام 1364ه / 1945م شهد تأسيس مدرسة دار التوحيد بالطائف التي مثّلت نقلة نوعية في التعليم السعودي، حيث قدمت التعليم ما بعد الابتدائي في مرحلتي المتوسطة والثانوية، بهدف تأهيل القضاة والعلماء، وتركّزت مناهجها في العلوم الشرعية واللغة العربية، مما جعلها نموذجًا متميزًا للمدارس المتخصصة في تلك الحقبة. اهتمام المؤسس وبيّنت الدارة أن ما ميّز دار التوحيد لم يكن تخصصها العلمي فحسب، بل اهتمام الملك عبدالعزيز -رحمه الله- المباشر بها، وحرصه على استقطاب الطلاب من مختلف مناطق المملكة وتشجيع الأسر على إرسال أبنائها للدراسة فيها، إذ كانت المدرسة بمثابة ابتعاث داخلي يوفّر للطلاب السكن والطعام والكسوة والمكافآت المالية، مشيرةً إلى أن تأسيس دار التوحيد جاء في فترة شهدت فيها المملكة نهضة تعليمية نوعية، تمثلت في توسع إنشاء المدارس وافتتاح مؤسسات تعليمية متخصصة في مجالات الزراعة، والتجارة، والصحة، والتدريب العسكري، وتعليم الكبار، إضافةً إلى مدارس لتعليم أبناء القرى والهجر والقبائل الرحّل، كما شهدت المرحلة نفسها بدايات التعليم العالي بإنشاء كلية الشريعة في مكةالمكرمة عام 1369ه / 1949م، ثم كلية المعلمين عام 1371ه / 1952م، وكلية الشريعة في الرياض 1373ه / 1953م، واختتمت دارة الملك عبدالعزيز بالتأكيد على أن هذه التطورات التعليمية موثّقة في مصادرها الأصيلة المحفوظة في الأرشيف، والتي تضم وثائق وإحصاءات وسجلات رسمية وأخبارًا صحفية وروايات شفوية، تُعدّ مرجعًا علميًا ثريًا لدراسة مسار التعليم السعودي وتحولاته التاريخية الكبرى. بيئة مثالية وتحدث أ.د.عبداللطيف الحميد -مؤرخ ومستشار بدارة الملك عبدالعزيز سابقاً- قائلاً: إن من مآثر الملك المؤسس عبدالعزيز –رحمه الله– توجيهه بإنشاء مدرسة دار التوحيد بالطائف 1364ه، التي شكّلت منذ تأسيسها نواة التعليم النظامي الشرعي في المملكة، وأنجبت عبر عقودها الطويلة نخبة من أبرز رواد المجتمع في المجالات العلمية والتربوية والقضائية والإدارية، مضيفاً أن هذا التوجّه جاء متزامنًا مع مسيرة توحيد البلاد، حيث قاد المؤسس إلى جانب جهوده السياسية والعسكرية خطوات جريئة لتحديث التعليم ونشره في المدن والقرى، فأنشأ المعهد العلمي السعودي لإعداد المدرسين بمكةالمكرمة عام 1346ه، ثم توسعت النهضة التعليمية بإنشاء المعاهد والكليات في الرياض، حتى بلغ عدد المدارس في عهده 326 مدرسة، مشيراً إلى أن دار التوحيد تميّزت بريادتها في الإدارة والموقع والمناهج والمعلمين والطلاب، إذ ساهم موقع الطائف الجغرافي المعتدل والقريب من مكةالمكرمة، وتفرغ الطلاب للتحصيل العلمي، في خلق بيئة تعليمية مثالية جمعت طلابًا من مختلف مناطق المملكة، خصوصًا من نجد، الذين كانوا يبحثون عن التعليم النظامي في ظروف ميسّرة. تحوّل فكري وأوضح أ. د. الحميد أن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- عيّن العالم الشامي الشيخ بهجت البيطار مديرًا للمدرسة، فاختار نخبة من العلماء من المملكة والشام والأزهر للتدريس فيها، وتعاقب على إدارتها عدد من العلماء البارزين، من بينهم الشيخ نسيب المجذوب، والشيخ محمد بن مانع، والشيخ عبدالملك الطرابلسي، والشيخ عبدالله الخزيم، والشيخ عبدالرحمن بن داود، والشيخ عبدالله الزامل، ثم طامي البقمي، وعبدالعزيز الشايع، وأحمد الشايع، فيما تولى إدارة القسم المتوسط عبدالرحمن الشويعر، وعبدالله الشافي، وسعد العدواني، وساير الحعيد، مبيناً أن مناهج دار التوحيد شملت مواد التفسير والحديث وأصولهما، والفقه والفرائض، والقواعد والصرف والعروض، والأدب والتاريخ والجغرافيا والبلاغة والحساب والهندسة، وكانت الدراسة في بدايتها خمس سنوات، ثم طُوّرت إلى ثلاث سنوات متوسطة وثلاث سنوات ثانوية تؤهل للالتحاق بكليات الشريعة واللغة العربية أو الكليات العسكرية، لافتاً إلى أن دار التوحيد أحدثت تحولًا فكريًا واجتماعيًا واسعًا، إذ كانت السيارات تجوب المدن والقرى لتسجيل الطلاب وتشجيعهم على الالتحاق، مع توفير السكن والإعاشة والمكافآت المجزية، مما أسهم في انتشار التعليم الشرعي والنظامي على نطاق واسع، ذاكراً أن خريجي دار التوحيد لعبوا دورًا محوريًا في نهضة المملكة، حيث تخرج منها وزراء وقضاة وأدباء وعلماء وباحثون وإداريون، ومن أبرز من درّس فيها الشيخ عبدالله الخليفي، والشيخ محمد الفرائضي، والشيخ عبدالرازق عفيفي، والشيخ محمد أبو شُبَهة، والشيخ متولي الشعراوي –رحمهم الله-. زيارة الأمراء وتحدث محمد منصور المجممي -معلم ومنسق متحف دار التوحيد- قائلاً: إنه تعد المدرسة الوحيدة التي حظيت بشرف زيارة أصحاب السمو الملكي لها، حيث شهد أول احتفال لها زيارة ولي العهد آنذاك الملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله-، ثم تشرفت بزيارة وزير المعارف في ذلك الوقت الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- وكذلك بزيارة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبدالمحسن، ومؤخراً بزيارة صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نهار، إضافةً إلى وزير التعليم يوسف البنيان وكذلك مساعديه ووكلاء الوزارة، إلى جانب محافظ الطائف السابق سعد الميموني، مضيفاً أنه تمثل المدرسة رحلة التعليم النظامي في المملكة ابتداء من عصر المؤسس -رحمه الله- حتى وقتنا الراهن. خيارات واسعة وذكر حسان بن محمد بن سعيد آل كمال –صاحب أقدم مكتبة في الطائف- أن الخلفية التعليمية والثقافية لوالده أسهمت في جعل مكتبة المعارف وجهة رئيسة لطلبة العلم والمثقفين، إذ كان طلاب المدارس -ولاسيما طلاب دار التوحيد- يجدون في مكتبة المعارف ما يحتاجونه من كتبٍ ومراجع، سواء عبر الشراء أو الإعارة أو الاطلاع المباشر، إلى جانب الإرشاد العلمي الذي كان يقدمه الشيخ محمد سعيد آل كمال بخبرته الطويلة في التعليم، مشيراً إلى أن مناهج دار التوحيد آنذاك كانت تعتمد على أمهات الكتب في اللغة العربية وعلوم الدين بمختلف فروعها، وهو ما جعل مكتبة المعارف تعمل باستمرار على توفير هذه المصادر والمراجع لتلبية احتياجات الطلاب والمعلمين والباحثين، ذاكراً أنها لم تكن مجرد مكتبة تجارية، بل كانت منارة معرفية وثقافية أسهمت في تنشيط الحركة العلمية والفكرية في الطائف، ووفّرت لروادها من طلاب دار التوحيد وغيرهم خيارات واسعة من الكتب والمراجع المتخصصة، مما جعلها إحدى الركائز الرئيسة في المشهد الثقافي والتعليمي للمدينة. دعامة علمية وأوضح آل كمال أن المكتبة مثّلت في تلك الحقبة دعامة علمية اعتمد عليها طلاب دار التوحيد في مسيرتهم الدراسية، إذ كانت تزخر بمجموعة من أمهات الكتب والمراجع الأصيلة في علوم الشريعة واللغة والأدب، ومن أبرزها ألفية ابن مالك، وشرح ابن عقيل، وصحيحي البخاري ومسلم، ومسند الإمام أحمد بن حنبل، وموطأ الإمام مالك، وسنن ابن ماجه، وسنن النسائي، وسنن الترمذي، إلى جانب كتب الأدب العربي وشعر الجاهليين والإسلاميين، التي شكّلت قاعدة معرفية متينة للطلاب والباحثين آنذاك، مضيفاً أن من أبرز طلاب دار التوحيد الذين اعتادوا اقتناء الكتب من المكتبة والاستفادة من مقتنياتها الشيخ عبدالعزيز المسند، وعبدالله بن خميس، والدكتور فهد العرابي الحارثي، واللواء أحمد بن سلطان الفعر، ممن كانت لهم لاحقًا إسهامات بارزة في مجالات الفكر والأدب والتعليم والإعلام. الباب الرئيسي لمدرسة دار التوحيد دار التوحيد مثّلت مرحلة مفصلية في مسيرة التعليم النظامي بالمملكة