طبعًا... لكن الجميل في الأمر أن أغلب الناس ما زالوا يصرّون أنهم مُحصَّنون، وأن لديهم وعيًا صلبًا، بينما عبارة عابرة بلا وجه تمتلك قدرة مدهشة على تعكير يوم كامل. فنحن جيلٌ يتفاخر بأنه لا يُخدع، بينما إشاعة تافهة تغيّر مزاجه، وصورة مجهولة توقظ فيه محلّلين نفسيين لا يعرفهم أصلًا، وتغريدة واحدة تجعله يراجع مبادئه، وكأنه يعيد فحص نفسه تحت ضوءٍ لا يرحم. فنحن لسنا مُخترقين فقط، نحن قابلون للاختراق، وأخطر الاختراقات ليست الرقمية؛ بل تلك التي تحدث حين يرى أحدهم نقطة ضعفك، فيتصرّف وكأنه يملك جهاز تحكّم بمشاعرك؛ يرفع الصوت، يخفضه، يوقفك، يشغلك... وأنت تستجيب له بأدبٍ مريب، وكأنك برنامج فقد القدرة على تحديث نفسه. وفي العلاقات؟ لا يحتاج أحدٌ إلى اختراق هاتفك يكفيه أن يكتب لك "تمام" ببرود، لتبدأ عقلك في إنتاج أربعين سيناريو أسود، وجميعها من تأليفك الشخصي. أمّا المجتمع فهو مساحة يتأثّر فيها الناس بسرعة. ففكرة تظهر فجأة، فيتداولها الجميع دون تمحيص، لا لأنّها عميقة، بل لأنّها منتشرة. ومع كل مشاركة، تتراجع الأسئلة، ويقود المشهد ضوءٌ عابر يلفت الانتباه أكثر مما يمنح فهمًا. والساخر أكثر... أن الإنسان يعيش متوهّمًا أنه "مستقل". لكن أول إشعار يصله كفيل بأن يقلب هدوءه إلى توتّر، وثقته إلى ارتباك، وكأنه خضع لاختبارٍ مباغت لم يستعد له يومًا. فالعمق الحقيقي في القصة أن الإنسان لا يُخترق لأنه ضعيف، بل لأنه مكشوف. يفتح أبوابه بلا حذر، ويترك روحه تعمل بلا جدار حماية، ويثق بكل ما يلمع، حتى لو كان مجرّد إعلانٍ مدفوع. وهنا لا يُطلب منك أن تُغلق أبوابك كلّها، ولا أن تعيش في عزلةٍ ذكية، بل أن تعرف متى تقول "توقّف"، ومتى تتأمل ما تشعر به قبل أن تدافع عنه. وفي النهاية، لا يحدث الاختراق دائمًا بضجّة، فغالبًا يبدأ بتنازلٍ صغير، وبسكوتٍ ظننته حكمة، حتى تكتشف أنك توقفت عن الكلام أكثر مما يجب فالوعي ليس حصانةً مطلقة، بل ممارسة يومية للتفكير الواعي، ومراجعة ما نستهلكه قبل أن نُصدّقه، وما نسمح له بالعبور قبل أن يستقرّ فينا. فلسنا مطالبين بإغلاق الأبواب جميعها، لكن من الإنصاف لأنفسنا أن نختار من ندخله إلى وعينا، ومن نُبقيه خارج السور. حينها لن تصبح قاسيًا، ستصبح واضحًا. واضحًا مع نفسك أولًا، ومع العالم بما يكفي لئلا يُدار وعيك من خلف الستار.