الجيرة ليست مجرد بيوت متجاورة أو جدران متلاصقة؛ بل هي علاقة إنسانية عميقة تضرب جذورها في الدين والتاريخ والثقافة؛ فقد أوصى بها الإسلام عناية خاصة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. هذه الوصية العظيمة تجعل من الجار شريكاً في الحياة اليومية، ومكوناً أساسياً في بناء مجتمع متماسك. لقد رفع الإسلام مكانة الجار إلى مرتبة تكاد تقترب من القرابة، وجعل حسن معاملته من دلائل الإيمان، وحذر من أذيته تحذيراً شديداً. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: والله لا يؤمن الذي لا يأمن جاره بوائقه. وتظهر قيمة الجيرة في حياتنا اليومية في التعاون في الأزمات؛ فالجار أول من يمد يد العون عند الحاجة، ومشاركة الأفراح والأحزان؛ ما يزيد روابط المودة والرحمة واحترام الخصوصية بعدم التطفل، أو التعدي على الحقوق والالتزام بالهدوء؛ لأن الإزعاج يفسد صفو الحياة والمسامحة والتغاضي؛ فالمشكلات الصغيرة لا تستحق أن تفسد علاقة الجوار من الناحية الاجتماعية تصنع الجيرة بيئة متكاملة أشبه بالأسرة الواحدة، وتوفر أجواء آمنة لتربية الأبناء وتعزز التكافل والدعم بين الكبار والصغار. في المقابل فإن غيابها يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي وانتشار الخصومات، ومع تطور المجتمع لم تعد الجيرة مجرد التزام أخلاقي؛ بل أصبحت جزءاً من التشريعات والأنظمة الحديثة، فقد وضعت البلديات والأنظمة العقارية ضوابط تحمي حقوق الجوار؛ مثل تنظيم الممرات والمواقف المشتركة وفرض غرامات على الضوضاء والإزعاج، وإلزام الملاك باحترام خصوصية الجيران في التصميم العمراني، وتوفير آليات قضائية لفض النزاعات. من واقع عملي كمطور عقاري أرى أن الجيرة هي روح السكن؛ فالبيوت مهما بلغت فخامتها لن تكتمل قيمتها إذا غابت عنها راحة البال، والمشاريع السكنية الناجحة هي التي تراعي الخصوصية، وتدعم العلاقات الصحية بين الجيران، وهذا يتوافق مع أهداف رؤية المملكة 2030 في تعزيز جودة الحياة. الجيرة الصالحة ليست ترفاً اجتماعياً، بل هي ضرورة لبناء مجتمع صحي متماسك والمجتمع، الذي يحترم فيه الجار جاره يعيش في بيئة آمنة، يسودها الحب والاحترام الجار قبل الدار، وصلاح الجيرة بداية صلاح المجتمع.