في 10 مارس 2025، وُلد أمل بتوحيد جميع أراضي سوريا تحت قيادة حكومة واحدة، عندما وقّع الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية «قسد» مظلوم عبدي اتفاقا لوقف إطلاق النار، ورفض دعوات التقسيم، واندماج قوات سوريا الديمقراطية ضمن مؤسسات الدولة. غير أن هذا الأمل سرعان ما واجه تعقيدات عملية، إذ ما إن عاد عبدي إلى مقره في الجزيرة السورية حتى بدأت الخلافات بالظهور حول تفسير بعض بنود الاتفاق وآليات تطبيقه، ولا سيما البند المتعلق ب«دمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز». ففي حين رأت «قسد» أن الدمج يجب أن يكون جماعيا وهيكليا، أي على شكل كتلة واحدة، شددت دمشق على أن الاندماج يجب أن يكون كاملا وفرديا ضمن مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية. ومؤخرا، تردّد حديث عن قبول دمشق بانضمام قسد ضمن ثلاث فرق رئيسية وألوية أصغر، شريطة التخلي عن بعض سلاسل القيادة وفتح مناطق انتشارها أمام وحدات الجيش السوري. وخلال الأشهر الماضية تبادل الطرفان الاتهامات، ووقعت عشرات الاشتباكات في مناطق التماس في الجزيرة السورية. كما تصاعدت هجمات «قسد» خلال الأسبوع الماضي، ولا سيما في مدينة حلب، بالتزامن مع وصول وفد تركي رفيع المستوى إلى دمشق ضمّ وزير الخارجية هاكان فيدان ووزير الدفاع يشار غولر ورئيس الاستخبارات إبراهيم كالن. واعتبر مراقبون هذا التصعيد رسالة سياسية موجهة لتركيا التي تقف إلى جانب الحكومة السورية، وترفض بقاء «قسد» بصيغتها الحالية لما يشكله ذلك من تهديد لأمنها القومي. قوات سوريا الديموقراطية تفاوض من منطق قوة ظاهريا، فهي تسيطر على مساحات شاسعة شمال شرق سوريا الغنية بالثروات الزراعية والنفطية، وتدير المنطقة منذ سنوات بعد نجاحها في تحييد خطر تنظيم داعش الإرهابي بدعم من التحالف الدولي، كما تمتلك نحو 50 ألف مقاتل مدرب وأسلحة حديثة، ولا تخفي تخوفها من أن القادمين الجدد إلى دمشق يمكن أن يسلبوها امتيازاتها. لكن إحدى أهم العقبات في وجه قسد موجودة في تركيبتها، من حيث انتماء نسبة كبيرة من مقاتليها للعشائر العربية التي لم تجد سابقا بدًا من الانضمام لها، لكن بعد تحرير سوريا اختلف الأمر وبات التوجه العام أقرب للدولة السورية الواحدة لا إلى فصيل بعقيدة أيديولوجية لا ينتمي لها أبناء المنطقة فرضته الظروف في وقت سابق، وهذا ما يفسر ابتعاد قسد عن التصعيد في مناطق الجزيرة السورية حيث الثقل الأكبر للعشائر العربية واختيار حلب لإرسال الرسائل الدموية الأسبوع الماضي. في المقابل، تستند الحكومة السورية إلى شرعية داخلية ودولية متزايدة بعد إسقاط نظام الأسد، وتطرح نفسها بوصفها سلطة تسعى إلى استعادة وحدة الدولة وبسط سيادتها الكاملة على الأراضي السورية. وزاد من تعقيد المشهد توارد تقارير عن تنسيق بين «قسد» وإسرائيل لمواجهة احتمال قيام تحالف عسكري سوري – تركي ضدها. واعتبر وزير الخارجية التركي، خلال زيارته دمشق الأسبوع الماضي، أن التنسيق بين قوات سوريا الديمقراطية وإسرائيل يشكل عقبة أمام تنفيذ اتفاق اندماج قسد ضمن هياكل الدولة السورية. وتجد دمشق في هذه التقارير ما يبرر قلقها؛ فاندماج فصيل مسلح داخل مؤسسات الأمن الوطني وهو يقيم علاقات مع جهة خارجية معادية للدولة السورية يمس جوهر السيادة ووحدة القرار الأمني، لا سيما في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية. ويرى خبراء عسكريون أن دخول قسد بهذه الطريقة إلى تشكيلة الأمن الوطني سيحولها إلى خنجر في صدور السوريين متى أرادت أو متى أراد الإسرائيليون، كما حدث في السويداء عندما غدرت عصابات الهجري المدعومة إسرائيليا بقوى الأمن التي دخلت المحافظة بعد اتفاق للفصل بين الدروز والبدو يوليو الماضي. تسعى دمشق إلى توحيد الدولة بأسرع وقت ممكن، لما لذلك من أثر في تعزيز حضورها المركزي، واستعادة الموارد السيادية، وفتح الباب أمام الاستثمارات وإعادة الإعمار. في المقابل، لا يبدو الاندماج الكامل خيارا مريحا ل«قسد»، إذ يعني عمليا التخلي عن أدوات قوة راكمتها طوال عقد من الزمن بدعم خارجي، وتحولها من كيان سياسي أمني شبه مستقل إلى مكوّن ضمن بنية الدولة. ويعكس الأداء السياسي ل«قسد» هذا التردد، من خلال تصريحات متناقضة وخطوات أثارت امتعاض دمشق، مثل المؤتمر الذي عقدته في أغسطس الماضي، وشاركت فيه شخصيات محسوبة على تيارات انفصالية مثل حكمت الهجري وغزال غزال. من هنا، تبلور لدى الحكومة السورية انطباع بأن «قسد» تعتمد سياسة المماطلة وشراء الوقت، بانتظار تحولات محتملة في المواقف الدولية، ولا سيما الأمريكية، تجاه الحكومة الجديدة، في ظل أحداث الساحل والسويداء وتصاعد الهجمات الإرهابية، إضافة إلى استهداف قوات أمريكية في تدمر خلال الشهر الجاري. تركيا بدورها لا تخفي تحفظاتها على اندماج «قسد» ككتلة واحدة، إذ تعتبرها امتدادا لحزب العمال الكردستاني (PKK)، العدو اللدود لأنقرة، وهو ما يفسر الزيارة التركية الرفيعة إلى دمشق قبل أيام من انتهاء المهلة الممنوحة لتنفيذ بنود اتفاق آذار. والملاحظ أن تصريحات مسؤولي الحكومة السورية تزداد حدة مع قرب انتهاء المهلة، إذ قال وزير الخارجية أسعد الشيباني، في مؤتمر صحافي الإثنين، مع نظيره التركي، إن الحكومة السورية «لم تلمس مبادرة جدية» من «قسد» لتنفيذ اتفاق آذار، وإنها تماطل في تنفيذ الاتفاق الذي يقضي بدمجها في مؤسسات الدولة. كما قال مستشار الرئيس السوري للشؤون الإعلامية أحمد موفق زيدان، في منشور على X، إن «الخيارات مع قسد ضاقت، وعليها أن تتحمل مسؤولية عدم إيفائها بما وقعت عليه..». قائد قوات سوريا الديمقراطية ظهر اليوم ذاته في اجتماع الهيئة الاستشارية لدعم لجنة التفاوض شمال وشرق سوريا ليؤكد التوصل إلى تفاهم مشترك بشأن دمج القوى العسكرية، معتبرا أن الحل في سوريا يجب أن يكون لا مركزيا، وأن قسد تريد أن يدير أبناء المنطقة مناطقهم ضمن إطار دستوري. غير أن وزارة الخارجية والمغتربين ردت خلال ساعات بأن الحديث عن تفاهمات فيما يخص الملف العسكري لا ينسجم مع استمرار وجود تشكيلات مسلحة خارج إطار الجيش السوري وبقيادات مستقلة، وينسحب الأمر ذاته على السيطرة الأحادية على المعابر والحدود واستخدامها كورقة تفاوض، مؤكدةً أن الطرح الحالي للا مركزية يتجاوز الإطار الإداري نحو لا مركزية سياسية وأمنية تهدد وحدة الدولة وتكرّس كيانات أمر واقع. تعكس هذه المواقف المتعارضة عمق الخلاف في لحظة مفصلية: فإما أن يتحول اتفاق آذار إلى بوابة عبور نحو استقرار الدولة السورية، أو أن يبقى هدنة سياسية مؤقتة تسبق صداما مؤجلا تحكمه المتغيرات الإقليمية والدولية. وفي كلتا الحالتين، فإن السوريين وحدهم من سيدفع الثمن.