خطت الدولة اللبنانية الخطوة المنتظرة، داخلياً وخارجياً، ونقلت مبدأ «حصرية السلاح» إلى حيّز التنفيذ. لا خيار لها سوى أن تنجح، فهذا رهان الحاضر والمستقبل للبنان، وأي دولة لا يمكن أن تضع نفسها على محك أن تكون أو لا تكون في مقابل ميليشيا ولو مدججة بصواريخ. كما أنه لا خيار أمام «حزب إيران/ حزب الله» سوى أن يستجيب ويتعاون مع قرار تسليم سلاحه إلى الجيش اللبناني، فمن مصلحته على المدى الطويل أن تتعزز مكانة الدولة. كانت ممارساته طوال العقدين الماضيين مدانة من جانب اللبنانيين، قبل الأطراف الخارجية، لأنه اخترق الدولة واستقوى عليها وأضعفها، لكن تبين له في المنعطفات الحرجة- كسعيه الحثيث للحصول على وقف لإطلاق النار في 2006 و2024- أنه يحتاج إلى الدولة ولا يستطيع الحلول محلها، مهما عظم شأنه. أما القول بأن «الحزب» سيتعامل مع قرار الحكومة كأنه «غير موجود» فهذا يفترض أن لديه بدائل لكن التجربة أظهرت أنه لم تكن لديه بدائل أو حلول لمعالجة أي من الأزمات التي تسبب بها عندما كان «الحزب الحاكم بأمره». أما اعتبار قرار الحكومة «خطيئة كبرى» فيحاول الإيحاء، بالأحرى التهديد، بأن «الحزب» سيتولى «معاقبة» من اتخذه- باستئناف الاغتيالات مثلاً؟ لكن ردوده تنبئ بأنه لم يجرِ فعلاً المراجعات اللازمة لما تعرض له، ولا للأخطاء التي ارتكبها، وهي مراجعات قيل إنه بادر إليها بعد انتهاء الحرب أواخر نوفمبر الماضي. فلو فعل لأدرك ما تعنيه مسألتا «استعادة الدولة» و«حصر السلاح»، ولكان أقبل على التعامل معهما بجدية ومسؤولية وحتى بمرونة وبراجماتية. غير أن ممارساته في الشارع ومداخلات أمينه العام وعدد من أقطاب «الحزب» تناقضت على الدوام مع ما يُفترض أنها مراجعات واقعية، صريحة وشفافة. لم يخطئ «الحزب» بإصراره على أن يلتزم العدو الإسرائيلي كل شروط اتفاق وقف إطلاق النار، وأن يوقف اعتداءاته اليومية التي استمرت بعد الاتفاق، وأن ينهي احتلاله للتلال الخمس ويفرج عن الأسرى... لكن «الحزب» أخطأ باختصامه الدولة واتهامها بالرضوخ للقوى الخارجية، وكأنه يريد منها أن تستأنف الحرب التي بدأها رغماً عنها ثم أصر عليها حتى هزم فيها، ومع ذلك فهي تبنت تلك المطالب المشروعة في تواصلها مع المبعوثين الأمريكيين وكل المحافل الدبلوماسية، وطالبت بدورها ب«ضمانات» توفرها واشنطن بعد التفاهم مع الإسرائيليين إلا أنها تلقت من المبعوث توم براك رداً سلبياً: «لا ضمانات». هل ارتضت الدولة بهذا الردّ؟ لا، لم ترتضِ، لكنها لا تستطيع تغييره. والمعلوم أن «الحزب» وافق على اتفاق وقف إطلاق النار وهو يعلم أن واشنطن منحت إسرائيل «حق» متابعة عملياتها في لبنان متى شاءت ومن دون قيود، فواصلت التدمير في الجنوب، بل إنها عاودت الإغارة على الضاحية الجنوبية لبيروت ومواقع في البقاع. لا يمكن الوثوق بأمريكا، ولا بإسرائيل طبعاً، لكن «خطة براك» بأهدافها ووعودها والجدول الزمني الذي تقترحه ل«نزع السلاح» غير الشرعي، بمعزلٍ عما فيها من صدق أو خداع، هي الورقة الوحيدة المطروحة على لبنان ليأخذها كرزمة متكاملة تحقق انسحاباً إسرائيلياً ومؤتمراً دولياً بمشاركة الدول المانحة لإعادة الإعمار، مقابل حسم معضلة السلاح خلال 120 يوماً. أو يرفضها ويواصل الجدل حول بنودها، كما يريد «الحزب» ليتمكن من الاحتفاظ بسلاح يروج أنه «قوة لحماية لبنان». وعدا أن هذا السلاح لم يحمِ «الحزب» نفسه في مواجهة وميزانِ قوىً غير متكافئين، فإنه يريد السلاح ليحتمي به من نقمة الداخل اللبناني، بمن في ذلك بيئته المذهبية، لأنه سيتسبب بحرمان لبنان من مساعدات يحتاجها بشدة لإعادة الإعمار والتعافي من أزمته الاقتصادية. المجتمع الدولي، تحديداً الولاياتالمتحدة، يبتز لبنان (لا سحب لسلاح «الحزب»- لا مساعدات) لكنه يفتح أمامه أفقاً لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. أما «الحزب» الذي يعلن «عدم تسليم سلاحه» فلا يقدم للبلد سوى وعيد ب«حرب أهلية» لا يريدها أحد ولن ينتصر فيها أحد على الدولة، لكنه يقدم للعدو كل أسباب الاستمرار في اعتداءاته واحتلاله، أما المواطن الجنوبي فلا يسمع من «الحزب» سوى ما يؤجل عودته إلى أرضه. لا شك أن «الحزب» يستفظع تسليم سلاحه لأنه لم يعدّ نفسه للحظة كهذه، لكنه هو من سعى اليها، وهو أيضاً من يستطيع ألا يجعل منها لحظة انتحار. على قادته وأفراده أن يستعيدوا التواضع الذي افتقدوه، فأيام الغطرسة و«فائض القوة» ولت، ومن شأن احترامهم للدولة ولمواطنيهم أن يسهل عودتهم الى حياة طبيعية. أما إذا استمدوا مزيداً من التصلب، بالإصغاء إلى عباس عراقجي وعلي أكبر ولايتي، فمن الواضح أن هذين المسؤولين الإيرانيين يدعوان «الحزب» إلى الانتحار فعلاً، إذ لا قيمة ل«الدعم» الذي يعدان به فيما تحتاج إيران نفسها إلى الدعم. *ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»