أنتج قرار لبنان القاضي بإنهاء الوجود المسلح على كامل الأراضي اللبنانية بما فيه ميليشيا حزب الله، واقعاً جديداً في البلاد، ونقلها من حالة الاصطفاف في المحور الإيراني إلى المحور العربي، في تغيير جذري لتموضع لبنان الإقليمي، رغم اعتراض جماعة حزب الله التي دفعت بأنصارها إلى الشارع تعبيراً عن الغضب، بعد انسحاب الوزراء الشيعة من جلسة مجلس الوزراء، لمحاولة استهداف الحكومة والقرار الصادر عنها، تحت ذريعة «الميثاقية» التي اعتاد حزب الله اللجوء اليها كذريعة في كل المنعطفات خلال العقود الماضية، لتمرير ما يريده بالإكراه ورغما عن اللبنانيين، وهو ما يفسر خروج ممثلي حزب الله وحركة أمل من الجلسة الحكومية، قبل اتخاذ القرار وإعلانه، وما يفسر التصعيد الموازي خارج أروقة القصر الرئاسي حيث عقدت الجلسة! لكن الأوضح، أن الاتفاق على سحب سلاح ميليشيا حزب الله لم يتم بمواجهة، لقناعة السلطة في لبنان، بأن بناء الدولة يحتاج إلى قرارات حاسمة، وهو ما حصل رغم الاعتراضات ورفع السقوف. ما ظهر قبل جلسة مجلس الوزراء، وخلال مناقشات امتدت ثلاثة أشهر، بأن الرئيس اللبناني جوزاف عون الذي كان على تنسيق مع رئاسة الحكومة من جهة، ومع رئاسة البرلمان وممثلي جماعة حزب الله في مجلس النواب من جهة أخرى، أعطى كل المهل للتوصل إلى صيغة تؤدي إلى حماية لبنان وحماية أصول الدولة من أي حرب خارجية ومن أي توتر داخلي. كما أعطى كل الفرص لجماعة حزب الله، قبل أن يمهد للقرار، بتأييد الحكومة ودعمها، وترؤس الجلسة التي انعقدت في القصر الجمهوري، وذلك لإعطائها قوة رمزية ومعنوية، ويمنع التأويلات حول فصل الحُكم عن الحكومة. من هنا استطاع القرار الحكومي المحمي من أعلى سلطة سياسية في البلاد هي رئاسة الجمهورية والمدعومة برغبة شعبية واسعة، تسعى بشدة إلى التخلص من عبء سلاح ميليشيا حزب الله الذي لم يجلب للبنان واللبنانيين إلا الخراب، نقل البلاد من المحور الإيراني، إلى الحضن العربي، وإلى الشرعية الدولية. لا لبس في هذه النتيجة، ولا مجال لتأويلها. بات لبنان اليوم في قلب العروبة، ويتطلع لتوثيق العلاقات مع محيطه وعمقه العربي؛ واستعادة الثقة، والانصهار في خطط المستقبل العربي القائمة على الاستقرار والازدهار والتنمية والانفتاح والاعتدال والقوة الاقتصادية والتأثير السياسي، وهي خطط طموحة. يريد لبنان اللحاق بركبها، والخروج من العزلة التي فرضتها عليه سياسات جماعة حزب الله؛ ووضعته في دوامة القلق والتوتر. أول مؤشرات هذا التحول، يتمثل في الترحيب الأمريكي والتهنئة التي وجهها الموفد الأمريكي إلى لبنان توماس براك لرئيسي الجمهورية والحكومة، ولمجلس الوزراء، على «اتخاذ القرار التاريخي والجريء والصحيح، هذا الأسبوع، ببدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، والقرار 1701، واتفاق الطائف»، معتبراً أن مقررات الحكومة أطلقت حل (أمة واحدة، جيش واحد) للبنان. كما يتمثل في ترحيب مجلس التعاون الخليجي واعتبار القرار «يشكل خطوة مهمة نحو تعزيز سيادة الدولة اللبنانية وترسيخ الاستقرار والأمن للشعب اللبناني وتفعيل مؤسساتها» إضافة إلى ترحيب فرنسي واسع. بناء على ذلك يتطلع لبنان إلى انطلاق جهد عربي ودولي لدعم الدولة، مع اجتماعات رفيعة المستوى من المتوقع أن تبدأ أواخر الشهر الجاري، بعد إنجاز أبرز إصلاح سياسي وهو حصر السلاح في يد الدولة اللبنانية. يتطلع لبنان إلى تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية والقضائية ومكافحة الفساد، وهو بدأها أصلاً خلال الأشهر الخمسة الماضية، ويستكملها على مراحل لضمانة المساءلة وتعزيز الشفافية، ومخاطبة الأشقاء العرب والمجتمع الدولي، بما يمكنه من استعادة الثقة بالكامل وجذب الاستثمارات والمساعدات. يمضي لبنان في خطوة «بناء الدولة» بعد عقدين من الترهل فيها، والخفة في المعالجة، والتراخي في المحاسبة. لن تكون المهمة صعبة، طالما أن الأكثر تعقيداً تم تجاوزه، بدءاً من إلزام جماعة حزب الله بتسليم سلاحها، وكف يدها عن مقدرات البلاد.