نستطيع إذا سايرنا لغتنا الفصحى مصعدين معها في التاريخ أن نلاحظ أنها كانت دائمًا رمز وحدة العرب وقوميتهم، فهي العروة الوثقى والجامعة المثلى التي طالما ضمت قلوبهم بعضها إلى بعض، فمضوا يشقون طريقهم إلى تحقيق أمانيهم السياسية والاجتماعية متعاونين متآزرين، لا يهنون ولا يضعفون، بل ينفذون كاللهب المستعر إلى ما يريدون؛ حتى يحققوا ما يطمحون إليه من سيادتهم. كانت للقبائل العربية لهجات، ولكنهم التزموا في شعرهم ونثرهم لغة واحدة ولنعد أدراجنا إلى العصر الجاهلي فإننا نجدها قد تم تكونها فيه واتخذتها القبائل العربية الشمالية لسانا لها يعبر عن عقلها وشعورها، وكانت لكل قبيلة لهجتها الخاصة، غير أنها لم تصدر عنها في شعرها ونثرها، إنما صدرت عن لغة أدبية واحدة، هي هذه الفصحى المعربة التي نظن أنها كانت لغة قريش. وكأنما رأى الجاهليون ببصيرتهم النافذة أنه لا بد لهم أن يجتمعوا على لغة بينها، حتى يحققوا ما يطمحون إليه من سيادتهم واعتزازهم بقوميتهم إزاء الغزو المنظم في الشمال من قبل الروم في الغرب، والفرس في الشرق، والغزو الآخر المنظم في الجنوب من قبل الأحباش. لغة عربية أدبية واحدة بدأت في الجزيرة العربية من القرن الأول الميلادي ولا ريب في أن هذا الطموح لاتخاذ لغة أدبية واحدة بدا مبكرًا منذ القرون الأولى للميلاد، لكنه لم يتحقق تمامًا الا منذ أواخر القرن الخامس الميلادي، وإذا لغة عامة تشيع بين القبائل العربية الشمالية، وإذا العرب جميعا يلتفون حول مكة حامية الوثنية حينئذ ومركزها، وقد أمسكت بزمام القوافل التجارية. التي كان يمسك بها اليمنيون في عصور استقلالهم والتي كانت تنقل العروض والسلع بين المحيط الهندي والخليج العربي وبحر الروم، وإذا كثير من اليمنيين أنفسهم يهجرون لغتهم الحميرية ويتخذون العربية الفصحى لسانا لهم. يدل على ذلك أوضح الدلالة أن الوفود الجنوبية لم تتخذ حين وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم مترجمين بينها وبينه، بل كانت تستمع إلى هديه ويستمع إليها في نفس اللغة الشمالية المعربة التي نزل بها الذكر الحكيم. وجاء القرآن فدعم هذه اللغة العربية الواحدة، ومدّها إلى سائر الأقطار وهذا التاريخ الأول للغتنا الفصحى المعربة وما انبعث معه من شعور عميق بأنها رمز القومية العربية وشخصية العرب المعنوية دعمه الإسلام والقرآن الكريم، إذ أخذت تفرض هذه اللغة سلطانها في بيئات جديدة متفرقة في أقطار الأرض، ولم تمض حقب طويلة حتى غدت لغة الشعوب من أواسط آسيا الى جبال البرانس في شمال إسبانيا ، ولم تستطع لغة من لغات هذه البيئات أن تثبت لها أو تحول بينها وبين سيادتها. وقد يكون من أسباب ذلك أنها كانت لغة القرآن الكريم، وقد يكون من أسبابه قوتها وجمالها الفني بحيث لم تستطع أن تقف لها لغة من لغات هذه البيئات، ومهما تكن الأسباب فإنها أصبحت لغة قومية لأمم وشعوب قد تختلف وتتباين في أجناسها وأصل نشأتها، ولكنها تأتلف وتتحد في عروبتها، فهي جميعًا تنضوي تحت لوائها، وتتلقن لسانها وتَعب من قرآنها وشعرها وبيانها، ولا تلبث أن تعيش لها وبها، وتحيا فيها حياتها المعنوية: الأدبية والعقلية. 1963* *أديب وعالم لغوي مصري «1910 - 2005».