في قلب الخليج العربي، حيث تتسارع خطى التحديث وتتشكل المدن بأبراجها وشبكاتها الذكية، تبرز مسألة التوازن الديموغرافي كإحدى أكثر القضايا حساسية وتعقيدًا. ليست المسألة فقط أرقامًا وإحصاءات، بل هي قصة مجتمع يعيد تشكيل هويته، وتحدٍّ وجودي يختبر قدرة الدولة على الاستمرار في ظل تغيّرات سكانية غير متوازنة. منذ الطفرة النفطية، بدأت دول الخليج في استقطاب العمالة الأجنبية لسد احتياجات النمو المتسارع، فازدادت أعداد المقيمين بشكل يفوق معدلات النمو السكاني للمواطنين. هذا الخلل الديموغرافي تراكم عبر عقود، وأدى إلى هيمنة غير المواطنين على قطاعات حيوية، ليس فقط في سوق العمل، بل حتى في بعض التخصصات التقنية والتعليمية والخدماتية، وهو ما ترك آثارًا عميقة على النسيج الاجتماعي والاقتصادي. في بعض الدول الخليجية، تجاوزت نسبة الأجانب حاجز ال80 % من إجمالي السكان. هذا لا يشكل مجرد مسألة نسبية، بل أزمة تمس السيادة الثقافية والهوية الوطنية، وتطرح أسئلة حرجة عن الأمن الاجتماعي، وعن قابلية المجتمعات الخليجية للتماسك في حال حدوث أزمات اقتصادية أو سياسية. وقد انعكست هذه الحالة في سياسات حكومية تسعى ل«التوطين»، مثل «السعودة» و«الكويتية» و«التقطير»، التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على العمالة الوافدة وإعادة التوازن، لكنها ما زالت تواجه تحديات بنيوية مرتبطة بمخرجات التعليم، وثقافة العمل، وتفاوت الأجور. من جهة أخرى، فإن الاعتماد المكثّف على العمالة الأجنبية ترك أثرًا ديموغرافيًا طويل الأمد، مثل انخفاض معدلات الزواج والإنجاب لدى المواطنين، وازدياد متوسط العمر للسكان، ووجود أجيال من المقيمين المولودين في الخليج دون أمل في التجنيس أو الاستقرار الدائم، مما يخلق فجوة إنسانية وقانونية يصعب تجاهلها. في المقابل، هناك تجارب دولية تعاملت مع مشكلات شبيهة. خذ مثلًا سنغافورة، التي وضعت ضوابط صارمة للهجرة وربطتها باحتياجات الاقتصاد الوطني، مع فرض قيود زمنية على الإقامة، وربط الامتيازات بالخدمة والمساهمة، بما يضمن الحفاظ على التوازن السكاني، دون التخلّي عن الاستفادة من الكفاءات الأجنبية. التوازن الديموغرافي ليس مجرد رغبة سياسية، بل معادلة إستراتيجية. كل اختلال فيها، قد يتحوّل إلى نقطة ضعف في الأمن الوطني، في الثقافة، في الموارد، وحتى في السيادة. دول الخليج اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تتعامل مع الملف بجدية تتجاوز الشعارات، أو تواجه مستقبلًا مزدوج الهوية، ضائع التوازن. ووسط هذا التحدي، لا بد من تفعيل أدوات أكثر ابتكارًا: تطوير السياسات التعليمية لتلائم سوق العمل الحقيقي، تحفيز الخصوبة بين المواطنين، تنظيم الإقامة المؤقتة والانتقال من نموذج الاستيطان الاقتصادي إلى نموذج الاستثمار المرحلي، وإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمقيم، لا على أساس الكم، بل على أساس القيمة. المعادلة صعبة، نعم. لكنها ليست مستحيلة.