85.4% زيادة بوفورات استهلاك الطاقة    نمو التسهيلات الائتمانية %2.4    الأمسيات الشعرية تعزز المشهد الثقافي بجدة    شتوية جدة    تجربة العميل: تواصل أم تسويق؟    زيلينسكي يطالب أميركا بتكثيف ضغوطها على روسيا لإنهاء النزاع في أوكرانيا    «أطباء بلا حدود»: أطفال غزة يموتون من البرد القارس ويجب تكثيف الإغاثة    سوريا بعد قيصر 10 فرص و10 تحديات    الولايات المتحدة توجه «ضربة انتقامية» ضد «داعش»    هالاند يقود مانشستر سيتي لعبور ويستهام    «كاف» يقرر إقامة كأس أمم أفريقيا كل أربع سنوات    برئاسة"بن جلوي".. عمومية الاتحاد الدولي للهجن تعتمد استراتيجية "العالمية 2036"    «أمن الطرق» : القبض على باكستاني في مكة لترويجه (118) كجم "قات"    مطار الملك خالد في الرياض يؤكد عودة العمليات التشغيلية بالكامل    الخط العربي جمال وحضارة    "المقشوش".. أكلة تتوارثها الأجيال في حائل    التاريخ الإسلامي وصمة وإنصاف    عصير الشمندر مفتاح اللياقة البدنية    الشيخوخة ليست سببا للوفاة    مكملات غذائية لآلام البطن والانتفاخ    تيك توك النفوذ الرقمي وهندسة صفقة القرن    حين ينجح الجميع.. من يتعلم حقا    هيئة الأدب والنشر والترجمة تُدشّن ديوان الألمعي "أنتم ووحدي"    إنطلاق التصفيات الأولية لمسابقة الملك سلمان لحفظ القرآن الكريم في جازان    الأول من رجب.. ميلاد الكثير من السعوديين    السعودية تعزز العطاء ومد يد العون وتحتفل باليوم العالمي للتضامن الإنساني    "العصيمي" بطلاً لكأس اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية للقدرة والتحمل    ضبط 1417 مخالفًا لممارستهم «الكدادة» دون ترخيص    صور تاريخية للملك عبدالعزيز خلال زيارته البصرة عام 1334ه (1916م)    هيرنانديز: مشروع الهلال أقنعني والبطولات هدفي    جمعية التوعية بأضرار المخدرات بجازان تنفذ برنامجًا توعويًا بمنتزه الزاوية الخضراء في بيش    إنطلاق المرحلة الثالثة من فعاليات مبادرة «خُطى مستدامة – نحو سياحة بيئية مسؤولة» في حائل    مطار أبها الدولي يستقبل أولى الرحلات القادمة من سلطنة عُمان الشقيقة    المطيري تستعرض حضور المرأة في الشعر العرب    الداخلية تضبط 17,880 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود    بولونيا يعبر إلى نهائي السوبر الإيطالي ويضرب موعداً مع نابولي    تفاصيل ايقاف القيد عن النصر لضم صفقات شتوية    نيشيش: معاملة السعوديين مختلفة.. وجودار: الخروج لا يعد نهاية المشوار    طقس بارد إلى شديد البرودة على شمال ووسط المملكة    جمعية الإعاقة السمعية في جازان تشارك في مبادرة «في الإعاقة طاقة وتميز» بمحافظة بيش    ابتدائية منشبة بالدرب تحتفي باليوم العالمي للغة العربية    مُحافظ الطائف يستقبل وفدًا من أعضاء مجلس الشورى    الحذيفي: التقوى وحسن الخلق ميزان الكرامة عند الله    المعيقلي: ولاية الله أساس الطمأنينة والإيمان    قطرات للأنف لعلاج سرطان المخ    انتشار فيروس جدري القرود عالميًا    تخريج 335 كفاءة وطنية ضمن برامج التدريب بمدينة الملك سعود الطبية    "القوات الخاصة للأمن والحماية" نموذجٌ متكامل لحفظ الأمن وحماية مكتسبات التنمية    أمير منطقة جازان يستقبل القنصل الهندي    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تعيد توطين طائر الجمل بعد غياب 100 عام    أمير تبوك يستقبل رئيس المحكمة الإدارية بالمنطقة    أمير القصيم يواسي خالد بن صالح الدباسي في وفاة زوجته وابنتيه    نعمة الذرية    سمو ولي العهد يعزّي ولي عهد دولة الكويت في وفاة الشيخ جابر مبارك صباح الناصر الصباح    تصاعد الاستيطان الإسرائيلي يثير إدانات دولية.. واشنطن تؤكد رفض ضم الضفة الغربية    ضبط أحزمة ناسفة وصواريخ.. تفكيك خلية تابعة ل«داعش» في إدلب    أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشروعات التي تنفذها أمانة المنطقة    الهيئة العامة للنقل وجمعية الذوق العام تطلقان مبادرة "مشوارك صح"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السنة والشيعة والطريق الثالث - 3 -
نشر في الشرق يوم 25 - 02 - 2014

الإقصاء والنفي المتبادل والعنف المادي والرمزي و«مثلنة» الذات وشيطنة الآخر والتخندق المذهبي الفاشي، كلها أعراض لمرض واحد هو المرض بالذاكرة، فنحن نتذكر أكثر مما يجب، لدينا ذاكرة متخمة، معذبة بالحضور، «الذاكرة جرح متقيح» يقول نيتشة.. ذاكرة منتفخة هي ذاكرة لا تنسى ولا تستطيع النسيان، ذاكرة مثقلة بضغينتها ومنشدة إلى الوراء وتكرر التاريخ على نحو هزلي، إن المرض بالذاكرة مرض بالضغينة والعجز: لا ننسى الأحقاد المعتملة في التاريخ كما لا نقوى على القطيعة..
الصراع المذهبي يتغذى من التاريخ.. الطائفي منكوب بذاكرة متورمة، الطائفي مريض لا يشفيه سوى النسيان، إنه بحاجة أولا لكي يشفى إلى ملكة النسيان، إلى واقعة الموت بصفته قطيعة، الطريق الثالث طريق انقلابي، طريق أوديبي، إنه يبدأ من تبخيس الذاكرة إلى تبجيل النسيان، الخطوة الأولى في هذا الطريق ليست شيئا آخر سوى تمزيق الذاكرة وكل حنين عدمي لاستعادة الفائت والماضي، ليشرع، بصفته سلوكاً عاقاً، في إرساء قطيعة راديكالية..
ضمور ملكة النسيان يُنتج مفارقة مدهشة: الانشغال بتأثيث الماضي ونسيان الراهن وبناء المستقبل على صورة الماضي، إننا موجودون خارجنا، خارج اللحظة، ليس لأننا نتجاوز الراهن للتفكير باللحظات الآتية، وإنما لأننا نتقهقر وحسب.. نوجد دائما في الخلف، إننا نسير إلى الوراء، ونتحرك على إيقاع معارك الآباء وصراعاتهم في حركة دائرية تكاد تخنق التاريخ.
بحضور الذاكرة يغيب التاريخ، تنعدم الرؤية التاريخية، ليس باتجاه شكوكية مبررة معرفياً وإنما لصالح اليقين الدوغمائي المدعوم بذاكرة مكتنزة، غياب التاريخ يعني المرض ببعد النظر أو بقصوره والمفضي دائما إلى عملقة الحدث أو تقزيمه. الخلاف بين السنة والشيعة هو خلاف بين عدسة تضخم وأخرى تقزم الأحداث والشخصيات والرموز التاريخية، نحن لا نقرأ تاريخا واحدا، باحث «الإسلاميات التطبيقية» الجزائري محمد أركون لم يكن مخطئا حين أكد غياب التاريخ الموحد، فهذا التاريخ شأنه شأن العقيدة الفكرية والحقيقة، تمزق وانشطر إلى تواريخ: تاريخ شيعي، تاريخ سني، تاريخ أباضي.. إلخ.
لسنا إذن أمام تاريخ واحد، على أن الصيغة الجمعية «للتواريخ» لا تعني مجرد قراءة متعددة لحدث واحد، انشطار التاريخ وتشظيه أكثر من مجرد تعددية تأويلية، فعل التشظية يتعدى التأويل والقراءة للحدث ذاته، حيث يعيد صياغته ويعبث به، ثم يؤسس ذاكرة ممتلئة بأحداث تاريخية ولكن بعد أن طاولها التشويه والتحويل الذاتوي، الذاكرة تتعكز إذن «ولنفترض ذلك» على مجموعة من الأخطاء لكنها مبنية بشكل منطقي، التاريخ هنا رواية متقنة السرد.
وهكذا فالواقع التاريخي ليس شفافا لكي نحتكم إليه، البعد الذاتي يطغى على كل سلوك قرائي يستهدف إظهار الحدث.. الشك بالتاريخ فكرة صادمة وثورية وتكاد تكون فكرة ومبدأ ناجزا في الراهن المعرفي التاريخي، التاريخ اليوم يتخفف من وثوقيته، جاعلا من التعددية صفة إيجابية بعكس الموقف التقليدي الساعي دوما إلى شطب واقعة التعدد لإنجاز وحدته المتوهمة وربما المستحيلة.
ليس الشك بالتاريخ سوى شك بالواقع نفسه، هذا الواقع «في صورته الراهنة» ليس شفافا، كما أنه ليس بسيطا ثابتا صلبا، إنه من المرونة بحيث ينصاع لإرادة القارئ بقدر ما يمتلك من طبيعة شبحية، الواقع شبحي لا يبرز نفسه إلا لكي ينسحب ويتوارى ليهدم كل بارقة وثوقية سعيدة بظفر التملك والاستحواذ، فإذا كان الواقع الراهن عصيا على الإمساك فما بالك بالواقع التاريخي، إن الفكرة المتعكزة بكل ثقلها على تاريخ وأحداث تاريخية دون إرساء معنى راهن وأجوبة لأسئلة معاشة هي هنا -وفقا للمداخلات في المنهج التاريخي الحديث- موضع تساؤل كبير وعلامة استفهام ضخمة.
وما ذلك إلا لأنها تواجه إشكالية النقد التاريخي المستند على معطيات معرفية بحتة، هذه المواجهة أيا تكن النتائج تمثل تحديا كبيرا يرى فيه بعضهم حلولا لأزمة الاصطفاف الطائفي والتخندق المذهبي الفاشي، والمرجح أنها ستعزز حالة من الشكوكية الكفيلة بزرع فضيلة التواضع والتخفيف من وزر الذاكرة، لكن شريطة الانفتاح الكلي على الخطاب المعرفي والحاسة النقدية، أي سلوك الطريق الثالث، طريق التنوير والقراءة الصابرة لتاريخ ليس طيعا دائما، التاريخ عباءة ليست على مقاس الرغبة أو الذاكرة أو استيهاماتنا اللذيذة وضغينتنا المسكونة بالكراهية، التاريخ يهرب حتى من الطائفة، التي تستخدم التاريخ وتتكئ عليه وصوليا «ذرائعيا»، كل طائفة تؤدلج التاريخ لتلمع ذاتها وتشوه الآخر.. وإليكم بعض الشواهد: إن التشيع في صيغته الحالية هو تشيع صفوي، أما التسنن فهو مستمد من خطاب رسمي منسجم تماما مع حيثيات العهد الأموي / إن الرموز التاريخية «مؤمثلة»، إنها فوق النقد، مما يعني طبعا تعاليها على التاريخ «شخصيات فوق تاريخية».. من المدهش في هذا السياق أن نسمع «نصف المثقف ونصف الداعية» يقلب ويشوه المهمة التنويرية، لتكون مجرد تنزيه كامل ونهائي لأحداث أو شخصيات تاريخية، رغم ما ينجم عن ذلك من إجهاز كامل لكل قراءة تاريخية مستندة إلى معطياتها المعرفية، ألا يعني هذا التنزيه الكامل إبطالاً لكل حاسة نقدية؟ ألا يجب على التنويري أن يتخذ مسافة واحدة من الخصومة المذهبية ليقيم رؤيته المعرفية الخاصة والمستقلة؟ هل يتعين شطب المعرفة التاريخية والمنهج التاريخي لكي نتعايش؟. هل قدرنا أن نقيم في الماضي أو أن ننتصر لرؤية دون أخرى؟
الإقامة في الماضي ناجمة عن افتقاد النزوع الانقلابي لقاتل أبيه، ما نفتقده بحق هو جرعة ولو بسيطة من النزعة «الأوديبية»، إن الذي يتذكر كثيرا لا ينسى ولا يقتل أباه، الذاكرة الحاضرة بقوة ذاكرة محنطة ومرتهنة للأب الثقافي، كل الثقافات التقليدية المتصارعة ترقص على عزف منفرد لأب ثقافي واحد، فالحضور المتخم للذاكرة وغياب التاريخ والرؤية التاريخية، وضمور حس التمرد والتجاوز وغيرها من خصائص تمثل قاسما مشتركا تجمع بين الأطراف المتنافسة في الثقافة التقليدية. أما الطريق الثالث فعلى العكس، يبدو مثل ممحاة ومقصلة: القدرة على النسيان وتجاوز الأب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.