الإقصاء والنفي المتبادل والعنف المادي والرمزي و«مثلنة» الذات وشيطنة الآخر والتخندق المذهبي الفاشي، كلها أعراض لمرض واحد هو المرض بالذاكرة، فنحن نتذكر أكثر مما يجب، لدينا ذاكرة متخمة، معذبة بالحضور، «الذاكرة جرح متقيح» يقول نيتشة.. ذاكرة منتفخة هي ذاكرة لا تنسى ولا تستطيع النسيان، ذاكرة مثقلة بضغينتها ومنشدة إلى الوراء وتكرر التاريخ على نحو هزلي، إن المرض بالذاكرة مرض بالضغينة والعجز: لا ننسى الأحقاد المعتملة في التاريخ كما لا نقوى على القطيعة.. الصراع المذهبي يتغذى من التاريخ.. الطائفي منكوب بذاكرة متورمة، الطائفي مريض لا يشفيه سوى النسيان، إنه بحاجة أولا لكي يشفى إلى ملكة النسيان، إلى واقعة الموت بصفته قطيعة، الطريق الثالث طريق انقلابي، طريق أوديبي، إنه يبدأ من تبخيس الذاكرة إلى تبجيل النسيان، الخطوة الأولى في هذا الطريق ليست شيئا آخر سوى تمزيق الذاكرة وكل حنين عدمي لاستعادة الفائت والماضي، ليشرع، بصفته سلوكاً عاقاً، في إرساء قطيعة راديكالية.. ضمور ملكة النسيان يُنتج مفارقة مدهشة: الانشغال بتأثيث الماضي ونسيان الراهن وبناء المستقبل على صورة الماضي، إننا موجودون خارجنا، خارج اللحظة، ليس لأننا نتجاوز الراهن للتفكير باللحظات الآتية، وإنما لأننا نتقهقر وحسب.. نوجد دائما في الخلف، إننا نسير إلى الوراء، ونتحرك على إيقاع معارك الآباء وصراعاتهم في حركة دائرية تكاد تخنق التاريخ. بحضور الذاكرة يغيب التاريخ، تنعدم الرؤية التاريخية، ليس باتجاه شكوكية مبررة معرفياً وإنما لصالح اليقين الدوغمائي المدعوم بذاكرة مكتنزة، غياب التاريخ يعني المرض ببعد النظر أو بقصوره والمفضي دائما إلى عملقة الحدث أو تقزيمه. الخلاف بين السنة والشيعة هو خلاف بين عدسة تضخم وأخرى تقزم الأحداث والشخصيات والرموز التاريخية، نحن لا نقرأ تاريخا واحدا، باحث «الإسلاميات التطبيقية» الجزائري محمد أركون لم يكن مخطئا حين أكد غياب التاريخ الموحد، فهذا التاريخ شأنه شأن العقيدة الفكرية والحقيقة، تمزق وانشطر إلى تواريخ: تاريخ شيعي، تاريخ سني، تاريخ أباضي.. إلخ. لسنا إذن أمام تاريخ واحد، على أن الصيغة الجمعية «للتواريخ» لا تعني مجرد قراءة متعددة لحدث واحد، انشطار التاريخ وتشظيه أكثر من مجرد تعددية تأويلية، فعل التشظية يتعدى التأويل والقراءة للحدث ذاته، حيث يعيد صياغته ويعبث به، ثم يؤسس ذاكرة ممتلئة بأحداث تاريخية ولكن بعد أن طاولها التشويه والتحويل الذاتوي، الذاكرة تتعكز إذن «ولنفترض ذلك» على مجموعة من الأخطاء لكنها مبنية بشكل منطقي، التاريخ هنا رواية متقنة السرد. وهكذا فالواقع التاريخي ليس شفافا لكي نحتكم إليه، البعد الذاتي يطغى على كل سلوك قرائي يستهدف إظهار الحدث.. الشك بالتاريخ فكرة صادمة وثورية وتكاد تكون فكرة ومبدأ ناجزا في الراهن المعرفي التاريخي، التاريخ اليوم يتخفف من وثوقيته، جاعلا من التعددية صفة إيجابية بعكس الموقف التقليدي الساعي دوما إلى شطب واقعة التعدد لإنجاز وحدته المتوهمة وربما المستحيلة. ليس الشك بالتاريخ سوى شك بالواقع نفسه، هذا الواقع «في صورته الراهنة» ليس شفافا، كما أنه ليس بسيطا ثابتا صلبا، إنه من المرونة بحيث ينصاع لإرادة القارئ بقدر ما يمتلك من طبيعة شبحية، الواقع شبحي لا يبرز نفسه إلا لكي ينسحب ويتوارى ليهدم كل بارقة وثوقية سعيدة بظفر التملك والاستحواذ، فإذا كان الواقع الراهن عصيا على الإمساك فما بالك بالواقع التاريخي، إن الفكرة المتعكزة بكل ثقلها على تاريخ وأحداث تاريخية دون إرساء معنى راهن وأجوبة لأسئلة معاشة هي هنا -وفقا للمداخلات في المنهج التاريخي الحديث- موضع تساؤل كبير وعلامة استفهام ضخمة. وما ذلك إلا لأنها تواجه إشكالية النقد التاريخي المستند على معطيات معرفية بحتة، هذه المواجهة أيا تكن النتائج تمثل تحديا كبيرا يرى فيه بعضهم حلولا لأزمة الاصطفاف الطائفي والتخندق المذهبي الفاشي، والمرجح أنها ستعزز حالة من الشكوكية الكفيلة بزرع فضيلة التواضع والتخفيف من وزر الذاكرة، لكن شريطة الانفتاح الكلي على الخطاب المعرفي والحاسة النقدية، أي سلوك الطريق الثالث، طريق التنوير والقراءة الصابرة لتاريخ ليس طيعا دائما، التاريخ عباءة ليست على مقاس الرغبة أو الذاكرة أو استيهاماتنا اللذيذة وضغينتنا المسكونة بالكراهية، التاريخ يهرب حتى من الطائفة، التي تستخدم التاريخ وتتكئ عليه وصوليا «ذرائعيا»، كل طائفة تؤدلج التاريخ لتلمع ذاتها وتشوه الآخر.. وإليكم بعض الشواهد: إن التشيع في صيغته الحالية هو تشيع صفوي، أما التسنن فهو مستمد من خطاب رسمي منسجم تماما مع حيثيات العهد الأموي / إن الرموز التاريخية «مؤمثلة»، إنها فوق النقد، مما يعني طبعا تعاليها على التاريخ «شخصيات فوق تاريخية».. من المدهش في هذا السياق أن نسمع «نصف المثقف ونصف الداعية» يقلب ويشوه المهمة التنويرية، لتكون مجرد تنزيه كامل ونهائي لأحداث أو شخصيات تاريخية، رغم ما ينجم عن ذلك من إجهاز كامل لكل قراءة تاريخية مستندة إلى معطياتها المعرفية، ألا يعني هذا التنزيه الكامل إبطالاً لكل حاسة نقدية؟ ألا يجب على التنويري أن يتخذ مسافة واحدة من الخصومة المذهبية ليقيم رؤيته المعرفية الخاصة والمستقلة؟ هل يتعين شطب المعرفة التاريخية والمنهج التاريخي لكي نتعايش؟. هل قدرنا أن نقيم في الماضي أو أن ننتصر لرؤية دون أخرى؟ الإقامة في الماضي ناجمة عن افتقاد النزوع الانقلابي لقاتل أبيه، ما نفتقده بحق هو جرعة ولو بسيطة من النزعة «الأوديبية»، إن الذي يتذكر كثيرا لا ينسى ولا يقتل أباه، الذاكرة الحاضرة بقوة ذاكرة محنطة ومرتهنة للأب الثقافي، كل الثقافات التقليدية المتصارعة ترقص على عزف منفرد لأب ثقافي واحد، فالحضور المتخم للذاكرة وغياب التاريخ والرؤية التاريخية، وضمور حس التمرد والتجاوز وغيرها من خصائص تمثل قاسما مشتركا تجمع بين الأطراف المتنافسة في الثقافة التقليدية. أما الطريق الثالث فعلى العكس، يبدو مثل ممحاة ومقصلة: القدرة على النسيان وتجاوز الأب.