أعجبتني عبارات لأستاذي الدكتور عبدالله بن سُلَيم الرُّشَيد في حديثه ل(بودكاست جَوَلان) الذي كان عن (إمام اللغة الأصمعي)، وكان الحوار في بداية اللقاء حول معنى الانزياح في إكساب المعنى قيمة جمالية، أو صورة فنية، حيث كان مما قاله إن: «الأدب هو أشبه بالطعام اليومي للجميع، لا بد منه»، ثم أشار بعد ذلك أيضاً -ضمن حواره- إلى أن «عامة الناس يؤثر فيهم المثل، ويؤثر فيهم الكلام المسجوع، ومن قديم الزمان كانوا يسجعون؛ لأنهم يتلذذون بالنغمات»، ثم قال: «لماذا يسجعون؟ يتلذذون بالنغمات»، كما ألمح إلى أن «السجعة لذيذة في الأذن»، وذكر أيضاً أن «الإنسان بطبيعته يميل إلى الكلام المنمّق، وإلى كلام جديد يثير دهشته»، قلتُ: وكلّ ذلك مما يدلّ على أن الأدب أحياناً يشبه الغذاء في لذته، وجودته، وتأثيراته. وفي حديثه عن الشعر بوصفه ركناً رئيساً من أركان الأدب، أعجبتني أيضاً عبارة لأستاذي الدكتور صالح الهادي بن رمضان، حيث قال في لقاء تلفزيوني سابق ضمن أحد البرامج الثقافية: «كلُّ شيءٍ يمكن أن يُمَلَّ منه، إلا الشِّعر؛ لأنَّ الشعر كالعِطر، كالزَّهر، كالروائح الشهية، لا يُمكن أنْ تُمَلّ»، وهو في ذلك ينطلق من مبدأ ماديّ ذوقي للأدب، فالأدب هو ما يؤثر في النفس، ويحرك الفؤاد، ويهيّج المشاعر، وكأنه غذاء، لا بل دواء أحياناً، هكذا هو الأدب في غايته. إن للأدب فائدة عظيمة في تنمية فهم الإنسان، وتوسيع أفق خياله، وترقيق طبعه، وتعزيز ذوقه، وقد كان الأوائل حريصين على تعليم أبنائهم الأدب منذ صغرهم، فيحفّظونهم الشعر والنثر، وأخبار العرب، وأيامهم، وشيئاً من الأنساب، وكانوا يفعلون ذلك إيماناً منهم بأن الأدب هو الطريق الصحيح للتقويم والتأسيس، وهو المسلك الواضح في التعليم والتدريس؛ ولذلك ورد في كتاب (العمدة) لابن رشيق القيرواني (463ه): «وقال معاوية رحمه الله: يجب على الرجل تأديب ولده. والشعر أعلى مراتب الأدب. وقال: اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم». ويشبه الأدب النبات الذي ينمو، والشجر الذي يُزهِر، والزرع الذي يُثمِر؛ لهذا قال عبد الله بن المقفع (142ه) في (الأدب الصغير) مشبّها الأدب تشبيهاً بيئياً دقيقًا، حيث يقول: «وللعقولِ سَجِيَّاتٌ وغرائزُ، بها تَقْبَلُ الأَدَبَ، وبالأدبِ تَنْمِي العقولُ وتزكُو. فكما أنَّ الحبَّةَ المدفونةَ في الأرضِ لا تَقْدِرُ أنْ تَخْلَعَ يَبَسَهَا، وتُظهِرَ قُوَّتَها، وَتَطْلُعَ فوقَ الأرضِ بزَهرَتِها، وَرَيعِهَا، ونَضرَتِهَا، ونمائِها إلا بمعونة الماء الذي يَغُورُ إليها في مستودعها، فيُذهِبَ عنها أَذَى اليَبَسِ والموت، ويُحدِثَ لها بإذن الله القوةَ والحياة، فكذلك سَليقةُ العقلِ مَكنونةٌ في مَغرِزِها من القلب: لا قوةَ لها، ولا حياةَ بها، ولا مَنْفَعَةَ عندها، حتى يعتملها الأدبُ الذي هو ثمارُها، وحياتُها، ولِقاحُها». إن تشبيه الأدب بالغذاء تشبيه دقيق ومنطقي في آن؛ ذلك أن الأدب يغذّي الروح بطاقاتها، ويمدّ العاطفة بوقودها، ويزوّد العقل بأفكاره، ويعلي الخيال إلى فضاءات واسعة، وكما أن الطعام يغذّي الجسم، فيمدّه بالطاقة، والحيوية، والنشاط، فكذلك الأدب يغذّي وجدان الإنسان، ومشاعره، وأحاسيسه، ومن هنا فإذا كان الطعام مهماً لجسم الإنسان، فإن الأدب مهمٌ لعواطف الإنسان، وأفكاره، وخيالاته. فالأدب والطعام ضروريان للحياة، والصحة، وهما ضروريان كذلك للعقل والروح، وكما أن الجسم يحتاج للغذاء ليظل قوياً، فإن العقل أيضاً يحتاج للأدب ليظل مدركاً للجمال، ومتذوقاً للخيال. وهكذا كان الأدب في مختلف العصور: إنما هو تعبير إنساني، جمالي، يعلي من درجة الوعي لدى الإنسان، ويرفع من قيمه ومبادئه التي يسمو لها.