تظل الحضارات المتعارف عليها بين الشعوب والأمم أنها تنطلق من مرتكزات قوية تشع بضوء ساطع يصل إلى كل الآفاق، ولا يقتصر عطاء الحضارة على لون أو عرق، وإلا ينتفي هذا المفهوم تماما ويجرد من معناه، لأنها أي حضارة تأتي بمعنى ينسجم مع النفع المتعدى والخير العمِيم لكل البشرية، ولأنها كذلك تجمع بين مفاهيم مختلفة، في المقابل لا تقتصر الحضارة على الجوانب المادية فقط، بل تتجاوز إلى أبعد من ذلك، فالحضارة في واقعها رُقي وتقدم وتحتل مرتبة متقدمة في الصفوف الأولى التي تبحث عن عطاء الإنسان القيمي قبل نتاجه الثقافي والمعرفي، ومنجزاته المادية المختلفة، وفق صيغ متعددة قد يكون من أهمها هو تنظيم حياة الناس وما يكفل حقوقهم وشؤون حياتهم، وبهذا المعنى تكون الحضارة خلاف العبث والفوضى، وتاليا يأتي النتاج حيث يعرف مفهوم الحضارة بأنها ثمرة جهد الإنسان سواء كان ذلك فكريا أو عضليا، لكننا حين نتأمل بوعي فإن ذلك النتاج لن يأتي إلا ضمن بيئة خصبة تضع الجميع على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، مع بيئة آمنة التي ستكون مهيأة للحراك المادي والثقافي والمعرفي وتبادل المنافع بين الناس، وحين ننحاز إلى اتجاه معين فإننا نقع فيما يتنافي مع مفهوم الحضارة نفسه، ويغيب نتائجها في الحياة، فهي أي الحضارة حالة من التعايش بين الناس على مبدأ أثر الرجع الأول (كلكم لآدم وآدم من تراب) وهذه الواحدية لا تلغي التعدد والتنوع والاختلاف، وهذا هو بالضرورة سوف يحقق معاني الاستخلاف في الأرض نحو إعمارها، علينا أن نفهم معنى الحضارة ابتداءً على حقيقتها، ومن ثم ننطلق إلى آفاق أرحب في الحياة لنبني حضارة تستحق أن تخلد ويتداول ذكرها، ويعيش طرائقها ومنهجها المجتمع، وبالتالي ينتج عن ذلك متواليات الحضارة في نتاجها المادي والمعرفي والفني وغيره، اليوم يشار بالبنان إلى المملكة بأنها دولة حضارة منذُ نشأة توحيدها، لأنها كانت مبنية على احترام الإنسان والتعايش السلمي والتلاحم بين كل أفراد المجتمع القبلي في الجزيرة العربية وبعد سنوات مرت من التناحر يقيض الله على يد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه وحدة هذا الكيان العظيم، ليكون اليوم منارة عالمية في كل الاتجاهات، وذلك بعد أن انطلقت من البعد القيمي والإنساني والأخلاقي، توضع اللبنات الأولى على منهج صحيح يعلى من شأن الإنسان وكرامته ويهتم بشؤون حياته ويؤكد على الأمن وتبعاته كركيزة أولى نحو تدفق العطاء الحضاري الذي نجم عن بيئة تهيأت لتكون حاضنة ساهمت في توليد حضارة تنوع نتاجها تستحق هذا المعنى، ومن هنا يتاح لنا رؤية أشمل لتقرّي ذلك النتاج الحضاري على مستوياته المختلفة الفنية والفكرية ومظاهره المتعددة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي يغيب تماما عن الذهن من يعتقد أن الحضارة تنحصر حول الجوانب المادية فقط، وأن نماذج البناء الأندلسي على سبيل المثال هي التي تدلل على قوة تلك الحضارة، لأن الحضارة تتجاوز ذلك بكثير وتأتي بمعنى أوسع وأشمل، ومن المؤكد عند حصرها في هذا المفهوم الضيق فإننا نتراجع عن الخط المتقدم فضلًا عن تبوء الصدارة. وحين نستلهم الحضارة الأندلسية في اتجاه البناء وفنون العمارة فقط فإننا نغيّب ولاشك معنى الحضارة الحقيقي الذي اتسع لمنطلقاتها الأولى، وبالتالي نقع في خطأ جسيم نربك به الرؤية الحقيقية للحضارة بكل أبعادها وتعدد منجزها منذ طلائع فجرها المشرق، حيث يأتي البعض في محاولة باهتة لإدهاش الناس بأبعادها الفنية والجمالية فقط، صحيح إننا من الضرورة بمكان أن نرتقي بذوقيات الناس ورفع حسهم الشعوري وخبرتهم الجمالية وكذا معرفة الحياة الباذخة والأماكن المخملية التي ولدتها تلك الحضارة، ولكن ليس على حساب المعنى الحقيقي حول مفهوم منطلقات الحضارة الذي يشكل مشروع حياة ويتسم بعطاءات مختلفة جماع القول لا يجب أن نتغنّى بأمجاد الماضي ونندب حاضرنا أو نملأه بالبؤس والحسرة في صورة مشينة أشبه ما تكون بجلد الذات. وفي هذا يكون قد أدرنا الظهر عن الحاضر وأغفلنا الدور المناط بنا تجاه المستقبل، فمحطات الماضي مشرقة دون أدنى شك، وهي تعد طاقة فاعلة نستلهم منها قوة دافعة لحاضرنا دون الثبات على زمن فات ولن يعود على الإطلاق ( تلك أمة قد خلت) علينا أن ننطلق انطلاقة بفاعلية نحو آفاق بعيدة تقود إلى المعارج والعلو وتتوافق مع رؤية وطننا وتطلعات قيادتنا وطموح مجتمعاتنا وأجيالنا.. وإلى لقاء