في تجربة مختلفة تركت بصمتها على جبين الوطن واتسقت بحس شعوري مرهف مع المشهد العاطفي والإنساني ومع انساق الجغرافيا والتاريخ وانتظمت بوعي وفطنة مع المثيرات الجمالية والمحفزات الشعورية التي يمتلكها كشاعر فذ مختلف ومغاير عن غيره، ظل طوال عقود مضت في رحلة طويلة يرفع الصوت الذي ينداح من بين روحه التي تفيض بالوجدان وتمتاز بالخصوبة والجمال، وحين نقف على مراحل عمره فإننا ننظر بعين الزمن للمسار الطويل والرحلة المضنية والشاقة من جهة الشعر والممتلئ بالحرية والكرامة وينضح بجمالية التعبير الفني والتجربة الإبداعية التي تتجاوز المعنى المادي المحصور في إطار الكلمة، إن تلك القصائد التي قدم فيها سمو الأمير خالد الفيصل جهد عطاء الشاعر الإنسان نحو أبعاد مختلفة ومسارات متعددة مسطورة في دواوين الشعر ولوحات الوطن وكذا الثقافة والفن والمعرفة، وآن لنا أن نسجلها في ذاكرة الوطن والأجيال، وكم تستوقفني مطلع قصيدة (ثمانين عمري) بأبياتها التي تلتقط الفكرة الخلاقة بجزالة المفردة الموصولة بذاكرة العمر وبلامحة المعرفة والنظر عبر سنين التجربة وهو يراهن على الوعي والحكمة والقناعة والرضاء حين قال: يا مرحبا بك ياثمانين عمري لو ماهقيت إني اشوفك وأنا حي تناسلت شعرات الأيام تجري وابيضت السودا على ضامي الري لم يكن خالد الفيصل شاعرا ولا فنانا، بل هو مجموعة إنسان رَأَى هذا الوجود بعين مختلفة ورَأَى الفرق في عين الجمع ورَأَى الجمع في عين الفرق، رؤية متجاوزة إلى مرحلة فلسفية تضعه في المثل الأعلى ورمز للقدوة، ومن هنا استحضر ملتقى مكة الثقافي كأحد أهم الملتقيات الثقافية في وطننا الغالي، فقد تحول الملتقى بفضل أفكار سموه الكريم إلى حراك ثقافي يهدف إلى تعزيز القدوة الحسنة في مختلف المجالات من خلال أسلوب عصري يبني الإنسان وينمي الوطن بمبادرات تشاركيه إبداعية فاعلة ومفارقة المألوف تهدف إلى تحقيق التطوير للإنسان والوطن الأمر الذي يؤكد رؤية حقيقية مضى باتجاهها الملتقى، وهو يستشرف أفق المستقبل لطمس كل القيم السلبية وإعادة بناء الإنسان على أساس من الوعي والمعرفة والحكمة والبذل والعطاء، ومن ثم الاستثمار الراشد والإيجابي في كل مخرجات الفكر الإنساني ووسائله المتعددة وقد تجلى الصوت الثقافي لخالد الفيصل الذي كان مهموما بالوعي والمعرفة ويسعى إلى تنمية قيم الإنسان وفي مختلف شؤون الحياة وتبايناتها المتعددة، وهي حاله مهمة لتموضع إنسان الوطن إلى ما تعارف عليها بالفطرة الإنسانية السليمة على قاعدة (فطرة الله التي فطر الناس عليها)، وهذا يعد شرطا أساسيا لوجود الإنسان وتعايشه مع الآخرين وبالتالي أداء دورة كمستخلف في الأرض، وبالتالي التفاعل والإسهام بالقيم الإيجابية كقاعدة ارتكاز في منظومة التعاملات بين الناس، وفي الحقيقة هي مرحلة متجاوزة لاسيما من يتأمل فيها ببعد نظر وبعمق، فهذه التوجهات تعلي من قدرة الإنسان ومكانته، ومن ثم توظف عطاءاته في كل الاتجاهات لعمارة الأرض بكل ما يعنيه هذا المفهوم من معنى؛ لأن حقيقة الإنسان مستخلف في الأرض، وهذا الاستخلاف يقع عليه عبء تجاه الإنسانية ناهيك عن الوطن وإنسانه، فقيمة الإنسان هي بعطائه في الحياة، وهذا ما يضع الإنسان في مكانه الحقيقي كنموذج فريد، وهذا التوجه يحسب لفكر سمره الكريم فقد أضاء بأفكاره الكثير من البرامج المختلفة التي تستحق أن نقف عليها، ولا تغيب مؤسسة الفكر العربي في لبنان وغيرها الكثير من الأفكار النيرة على امتداد جغرافية الوطن ومن هنا جاء ملتقى مكة الثقافي من شذُور أفكاره ليضع الجميع نحو فاعلية مطلقة ويعد محاولة جادة توقظ ما بداخل الإنسان من عوالم أخرى على قاعدة ( وَتَحْسَبُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ وَفيكَ انطَوى العالَمُ الأَكبَر)، وليكون ذلك محفزا لعطاء جمعي على مبدأ (كلكم مسؤول) ليظل السؤال الملح والمتصدر لمنصة الملتقى لسنوات عدة كيف أكون قدوة: فتداعيات السؤال بحد ذاته منبهة وتحدث شرارة فكرية ومفاهيمية حافزة عند الجميع ويقود نحو عطاء لا ينضب، حيث لا تغيب مفهوم الفوارق والرغبات وكذا القدرات المتفاوتة بين الناس عند طرح مثل هذا التساؤل العميق وقد استغل هذا التنوع ليكون مصدر الثراء المعرفي، وعلى هذا الأساس أتيحت الفرصة للجميع من خلال ملتقى مكة الثقافي بعد مشاركة جماعية بوضع إستراتيجية واضحة مع رسم الآليات والخطط المنهجية من قبل القائمين على ذلك المشروع الوطني الجبار، فالجميع لديهم مواهب وقدرات، واستتباعا لذلك فإن أفكار سمو الأمير خالد وضعت الناس في مضمار التنافس نحو عطاءات متعددة، كل حسب ميوله ورغبته وهذا التمازج بين المجتمع وحالة التلاقي التي يعيشها الوطن من بين مختلف فئاته وعلى اختلاف تبايناتهم الاجتماعية ومستوياتهم الثقافية من خلال مثل تلك الأفكار النيرة التي جعلت المنجز مغايرا تماما، كما جُعلت النتائج ناجزة على أرض الواقع وكما ينبغي، وإذا ما حاولنا المقارنة بعالمنا العربي نجد أن الملتقى امتاز عن غيره وقد استمد كل مقوماته من الثقافة العربية والإسلامية ليجود بعطاه على منصة الوطن ، بل وحتى قد يتحقق أبعد من ذلك نحو الصعيد العالمي بشيوع مثل هذه المفاهيم والقيم النبيلة التي تضعنا على اثر الرجع الأول إبان إشعاع النور ومنطلق الرسالة لنستلهم دور أسلافنا الريادي وقد حقق الملتقى طوال سنوات خلت إنجازا باهرا وقاد إلى ساحة التغيير بما يتوافق مع رؤية الوطن، فالتغيير بحد ذاته كان يحمل مضامين ريادية أثرت بشكل فاعل ومباشر في الاتجاه الإيجابي، ولا يزال سمو الأمير خالد الفيصل يحفظه الله ملهما ومعلما ورمزا للوطن ويتفرد بالإنسان المثالي وبشخصية مختلفة ومستقلة تمنحك إحساسا بالقوة والعطاء والجذوة التي لا تنطفئ حتى لو لم يبق من العمر إلا ضحى شمس لوما بقي بالعمر إلا ضحى شمس فديت به ديني وداري وأهلها ما قد ذخرت اليوم عنها ولا أمس هي عشقة أفكاري وغاية أملها.. عوضة بن علي الدوسي