في كلّ مرّة أعود فيها إلى الجدل القديم حول العلاقة بين اللفظ والمعنى، أشعر وكأني أدخل مختبرًا فلسفيًا ما زالت أدواته تعمل رغم مرور قرون على بنائها. فالمسألة على قدمها لا تزال تتجدّد عند كلّ محاولةٍ لفهم طبيعة الدلالة إذا ما كانت تنشأ من الوضع؟ أم من الذهن؟ أم من العالم الخارجي؟ حيث في هذا التقاطع بين اللغة والفلسفة تتجلى النظرية الوضعية بما تُثيره من أسئلة لا تكاد تزول مهما تغيّرت طرائق طرحها. تبدأ النظرية من فرضية بسيطة في ظاهرها: وهي أن لا دلالة بلا وضع، ولا وضع بلا قصدٍ يربط اللفظ بمعنى، إلا أنّ هذه البساطة تُخفي خلفها شبكة معقّدة من التداخلات بين أربعة أُسس: اللفظ، والموضوع له، والوضع، والمعنى. وهذه الأركان ليست تكرارًا لما يعرفه اللغويون، بل هي كما يظهر من تحليل القدماء حلقاتٌ مترابطة لا تكتمل إحداها دون الأخرى. فاللفظ لم يعد مجرّد أصوات منطوقة، بل بنية سمعيّة أيضًا لها قدرتها على احتضان المعنى، أو ما يُسمّيه الأصوليون ب»الصورة الذهنية»، فالانزياح الفلسفي يبدأ حول ما إذا كان اللفظ يدل على شيء خارج الذهن، أم يكتفي بالإحالة إلى تمثيل ذهني مستقل عن الخارج. هنا تحديدًا تتبدّى فكرتي في خضم هذا الجدل؛ حيث إني أؤمن بأنّ المعنى لا يمكن أن يكون معزولًا عن السياق التداولي الذي يضخّه الاستعمال، فالوضع مهما بدا إجراءً منطقيًا منضبطًا لا يعمل في الذهن إلا من خلال التفاعل الحي بين المتكلم والسامع أو هكذا أعتقد على الأقل. ومع ذلك يُثبت التتبّع أنّ القدماء كانوا أكثر عمقًا ممّا نظن، فقد أدركوا أن الوضع لا يكون دائمًا مقصودًا، بل قد يتشكّل بالتجربة والتواضع، ومن هنا تبرز سُلطة اللغة؛ فهي ليست صناعة فردية، بل نتيجة تراكم اجتماعي طويل تتجلّى فيه عبقرية الجماعة. وربما بدا اللفظ جسرًا بين الحواس والعقل، فإذا كان اللفظ صوتًا يعتمد المقاطع والمخارج، فإنّ هذه النظرة الصوتية المحضة ليست غاية بحد ذاتها، بل مدخل لفهم كيف يتحوّل الصوت إلى كيان دلالي، فاللفظ ليس مجرد مادة وإنّما قالبٌ للمعنى، والعلاقة هنا ليست ميكانيكية بقدر ما هي علاقة قصد وتخصيص تشبه العَقد بين الدال والمدلول. لقد تنبّه العلماء إلى أنّ اللفظ وحده لا يكفي، فلا بد من السماع والاستعمال، لأنهما يُحوّلان اللفظ من وجودٍ مُهمَل إلى تكوينٍ ذي قيمة لغوية. ولو كان الوضع يكفي بذاته لكان بالإمكان وضع ألفاظ لا حصر لها دون اختلاف أو اضطراب. غير أنّ التجربة البشرية تُخبرنا بأن المعنى لا يستقر إلا حين يتداوله الناس ويمنحونه شرعية اجتماعية، ومن هنا يبدو اللفظ أقرب إلى «علامة متغيرة» لا تُفهم إلا في ضوء علاقاتها. هنا يشتدّ الجدل، وهنا أيضًا تتضح رؤية المؤلفين، فقد ناقش القدماء المسألة من زوايا متعددة، لعل أبرزها مسألة ترى أنّ المعاني قائمة في الأشياء كما هي، واللفظ مفتاح يفتح باب الشيء، ومسألة ثانية ترى في الموضوع له صورة ذهنية تتشكّل في العقل، ويكون اللفظ دالًا عليها فقط. ثمّ مذهب ثالث توفيقي يرى أنّ للمعنى وجوهًا متعددة، تجمع بين الخارج والذهن. ومع أنّ الجدل يبدو منطقيًا، فإن تأمّله يفتح بابًا أوسع للسؤال: كيف نحكم على أنّ المعنى المحكوم به ذو وجودٍ خارجي؟ فهل العالم الخارجي يفرض صوره على الذهن، أم أنّ الذهن يُعيد بناء العالم داخله؟ من وجهة نظري المتأثرة بالدرس التداولي وتحليل الخطاب أرى أنّ المعنى لا يكتسب شرعيته من الخارج وحده، ولا من الذهن وحده، بل من الفعل الخطابي ذاته، إذ إنّ اللفظ حين يتعاور سياقًا تواصليًا يُصبح كيانا له وظيفة أكثر من كونه شكلاً. لكن ماذا عن ماهية الوضع؟ هل هو فعل قصدي من الواضع؟ أم هو نشأة اجتماعية تلقائية؟ وهل الوضع يُحدّد المعنى حدًّا نهائيًا، أم يترك الباب مواربًا للاستعمال؟ لقد توسّع العلماء في هذا، فمنهم من رأى الوضع تشريعًا عقليًا كالحدود في المنطق، ومنهم من رأى فيه تواضعًا مُتدرجًا يكتسب قوته من العادة، ومنهم من جمع بين الاثنين. ومهما بدا التعريف، فإن جوهر الوضع يكمن في الربط بين اللفظ والمعنى، وهذا الربط ليس آليًا، بل يستمد قوته من القبول الاجتماعي ومن قابلية اللفظ للتحمّل الدلالي، ذاك أنّ المعنى وجودٌ متعدد الوجوه؛ لذا يبدو في النصّ كائنًا مراوغًا، تارة يُربط بالخارج، وتارة بالذهن، وتارة بما بينهما. ومهما تعدّدت الاتجاهات بين ذهني وخارجي وتوقيفي فإنّ جوهر الخلاف من وجهة نظري لا يكمن في أيّها أصدق بقدر ما يتجلّى في الاعتراف بأن المعنى يتشكّل عبر التلاقي بين الذهن والعالم. بقي أن أقول: إنّ النظرية الوضعية ليست مجرد بحث في أصول اللغة، بل هي بحث في أصل المعنى نفسه. فاللغة لا تُستنفَد في أصواتها ولا في معانيها ولا في موضوعاتها، بل في تشابكاتها التي تخلق عُقدًا ضيقة من النفاد (التخصيص). وإذا كان القدماء قد اختلفوا في تحديد أين يسكن المعنى، فإنّ التجربة الإنسانية تُثبِت أنّ المعنى لا يسكن إلا في الاستعمال. وهذا ما أتبناه؛ حيث إنّ المعنى ليس سوى نتيجة تفاوض تواصلي ينشأ في لحظة التلفّظ. وهكذا تظل النظرية الوضعية رغم قدمها مُنطلقًا لا يمكن تجاوزه لفهم أعمق؛ حيث اللغة ليست مرآة للعالم، بل هي أسلوب في تشكّله.