يُهدهد الأديب عبدالله الحسني الدهشةَ في كتابه «كما رأيت» الصادر حديثاً عن «دار النخبة للنشر والتوزيع». كتابته، قبل أن تكون فعل تجلٍّ معرفيّ وومضة تفاعلٍ ثقافيّ يشتبكان بافتتانٍ قرائيّ واستقرائيّ مع مشهديّات الواقع والرؤى والوطن والتطلّعات والنتاج التراكميّ الذي يغدو تحوّلاً كيفيّاً... وقبل أن تكون كتابته موقفاً وصوتاً، هي إنصاتٌ شفيف لملح الأغوار. هكذا يكون أثره فعلاً تثقيفياً لا بالرمح، وإنما بالتمشّي بترفّقٍ وحكمة وثقة وشغفٍ استكشافيٍّ في شوارع الذات والروح والآخر والعالم، قد تختلف مع نظرته جزئياً ربّما، لكنّك تُعجَب بسماحة مراياه، لا سيما أنّ الكتابة لديه فعل استرئاء وارتئاء ويكون بعضها أيضاً ترائياً. ثمّة جسارة ورويّة في كتابه في آن، كأنّ عبدالله الحسني ناطور مفاتيح أدوات معرفية وملاعب سهر الهواجس وأبعاد القول بتواضعِ مَن يحبّ أن يتعلّم أكثر حين يُعلّم، متخفّفاً من ادّعاءات الكمال والمثالية ونرجسية المثقفين وزهو التبختر وضوارب طبل البخار لدى الكبار. يقول ويكتب كما رأى تباعاً بصدقٍ ومرشده عقله وحبّه لضياء التقدّم والتطوّر والنبش والسبر في الخلفيّات والأعماق... بدءاً من «الوطن يثقّف الجميع» و»أنسنة الثقافة»، وذكره رؤية 2030 للثقافة على اعتبارها نمط حياة من شأنه أن يساهم في جودة الحياة، مروراً ب»الأمن في السعودية... المدماك الأرصن والقيمة الأجلّ»، والمجتمع حين يتعطّل فكره ويعيش وعياً زائفاً وثقافة مغتربة... وصولاً إلى حديثه عن حقيقة قاسية حينما تتشكّل لدينا ظاهرة الكاتب النوعيّ الواعي الناقم على كلّ شيء، وغيرها الكثير من المواضيع والطروحات الشيّقة والمهمّة. كتابه مقطوعاتٌ تُنائي وتُدني معاً، تتباين وتجرف وتتداخل وتتناغم وتتكامل، عزفَها على أوتار الإدراك لتتجرّع كؤوس التجريد الذهنيّ، ويشكّل مجموعها فسيفساء تحتاج حتماً إلى أكثر من قراءةٍ واحدة وأعمق من تصفّحٍ صحفيّ أو نقديٍّ سريع. تستحقّ أن تُقارَب خارج الصندوق والتصنيفات السائدة والإسقاطات النظريّة البليدة، في بحثٍ ديناميّ غير تقليديّ أو كلاسيكيّ مؤطَّر وجامد. عبدالله الحسني لا يمكنه أن يمرّ عابراً في مهجة مَن يطالعه لأنه يحفر ظلاله المومئة فيها، يحثّ على انكبابٍ فتّان على الأسئلة الكبيرة والكبرى، دون أدنى زعمٍ محفوفٍ بامتلاك الحقيقة المطلَقة أو وكالة حصرية في الفهم. هنا تحديداً يتبدّى سحره وسرّه غير المنفصلين عن ذكائه العالي ورزانته وخفر قامته الثقافية والإنسانية. كتابه سفرٌ ورحلة وهيدبى وضوءٌ يتموّج، كأنما اللغة والكلام والتفكّر لديه ضفائر مصابيح في ليل الزمن الأعرج. *كاتبة وناقدة وشاعرة.