الإساءةُ إلى الولد وكسر مشاعره أسلوبٌ تربويٌّ فاشلٌ، وهذا النوع من التربية يضيِّع حقوق الوالدين وحقوق الولد المتعرِّض لهذه المعاملة، وهو بذرٌ لإشكالات كثيرة، قد تصطلي الأسرةُ والمجتمعُ بها.. معلومٌ أنَّ برَّ الوالدين من آكدِ الواجبات؛ ولذلك قرن الله تعالى الأمرَ به بالأمر بعبادته، وقرنَ الأمرَ بشكرهما بالأمر بشكره، وجاءت الآياتُ الدّالّةُ على ذلك بأسلوبٍ مرقِّقٍ، يُثير العواطف الكامنةَ، وبالمقابلِ يُعدُّ عقوقُ الوالدين من أكبرِ الكبائر، وورد في بعض الأحاديثِ معطوفاً على الإشراك بالله تعالى، ففي حديثِ أبي بَكْرةَ رضي الله تعالى عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُنبِّئكم بأكبرِ الكَبائرِ" ثلاثًا؟ قُلنا: بلى. يا رسولَ الله! قال: "الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدين.." متفقٌ عليه، فحقُّ الوالدينِ في البرِّ والإحسانِ من ثوابت الدين ودعائمه، ولا يسوغ عقوقهما بحالٍ من الأحوال، ولو كانا مقصِّريْنِ في واجباتهما ومسؤوليّاتِهما أو مُؤذيَيْنِ للولدِ، فحقُّ الوالدينِ مكفولٌ لهما على الإطلاقِ بلا قيدٍ، لكن الكياسةَ والتدبيرَ يقتضيانِ الاحتياطَ لهذا الحق كما يُحتاطُ لسائر الحقوقِ المحميّةِ فلا يبتذله الوالدان بما يعلمان أنّه يُغرِي الولدَ بالعقوقِ، كحق عصمةِ النفس والمال والعرضِ، فالإنسانُ يحتاطُ لنفسِه ولمالِه ولعرضِه، ولا يتّكِل على أن من حقِّه أن لا تُمسَّ هذه الضروريات، ولا يجعل نفسه أو مالَه أو عرضَه عُرضةً للتهلُكةِ والإتلافِ؛ اتِّكالاً على حرمتِها على الآخرين؛ لأنَّ الكثيرَ من النفوسِ البشريّة متهيّئة لانتهاكِ الحرمةِ المبتذَلةِ، ولا يردعها عن ذلك النهيُ الشرعيُّ والاستهجانً العرفيُّ، ولي مع الإعانة على العقوق وقفات: الأولى: الإحسانُ إلى الأولادِ مطلبٌ شرعيٌّ أكيدٌ؛ فهم أقربُ الأقربينَ، وقد عرَّف العلماءُ صلةَ الرحمِ الواجبةَ بأنّها: (الإحسان إلى الأهل والأقارب والرفق والبر بهم)، وأحوج الناسِ إلى هذا الرفق الأولاد؛ فهم أمانةٌ في أيدي الوالدين، والوالدان مجبولانِ على الحنانِ على الولدِ بصورةٍ تغني عن أمرِهما ببرِّه، كما قالتْ امرأةٌ من العرب تدعو لولدها: (اللَّهُمَّ إِنَّك قد علمت فرط حبِّ الْوَالِدين لولدهما؛ فَلذَلِك لم تأمرهما ببرِّه، وَعرفت قدر عقوق الولد لوالِديهِ؛ فَمن أجل ذَلِك حضضته على طاعتهما)، وقد كانَ السّلفُ يلاطفونَ أولادهم، ويبرُّونَ بهم أتمَّ البرِّ، وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب النفقة على العيال عن بعض أصحاب الإمامِ الثوريِّ أنه قال: (كُنَّا مَعَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَمَرَّ ابْنُهُ سَعِيدٌ فَقَالَ: «تَرَوْنَ هَذَا مَا جَفَوْتُهُ قَطُّ، وَرُبَّمَا دَعَانِي وَأَنَا فِي صَلَاةٍ غَيْرِ مَكْتُوبَةٍ فَأَقْطَعُهَا لَهُ»، وكأنّه قاسَ الولدَ على الوالد في جواز قطع النافلة لإجابته، وبحسن تعامل الإنسانِ مع أسرته وأولاده، وبذله لحقوقهم الماديّة والمعنويّة يُظهر لنا مدى سموِّ أخلاقه، ونقاء سريرته، وكونه من أهل الفضلِ والمروءة، أمَّا من كانت عادته العبوس في وجوه أولاده، والإساءة إليهم، وحرمانهم من دفء المشاعر، والكلمة الطيّبة، فليس من المعقول أن نصفَه بدماثةِ الأخلاق وبشاشة الوجه؛ لأنه خرج إلى الناسِ وتكلّف أن يُلاقيَهم بوجهٍ مشرقٍ، وأن يخاطبَهم بكلامٍ معسولٍ؛ حبّاً للمحمدةِ، واستدراراً للتعاملِ اللطيف من جانبِهم، فما من أحدٍ إلا ويمكنه أن يتكلّف القيمَ الفاضلةَ أمامَ الآخرين، وإن كان سيِّءَ الطباعِ. الثَّانية: كثيرٌ من الناسِ لا يُقتِّرُ على أولاده في النفقةِ وتوفيرِ المستلزماتِ الضروريّة والحاجيَّة بل وحتّى الكماليّات لهم، لكنّه مقصِّرٌ فيما يتعلَّق بحقوقهم المعنويّة، فلا يتورّع عن كسر خاطر أحدهم، وبعضهم يتفوّه لهم بالشتائم الثقيلة بأدنى سببٍ يمكن معالجته بكلمةٍ طيّبةٍ، بل قد لا يستدعي المعالجةَ أصلاً، وهذا من إعانةِ الشيطانِ على الولدِ؛ فإنَّ هذه التصرفاتِ تُغري بالعقوقِ، وقد أخرج ابن حربٍ في كتاب البرِّ والصّلة عن مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيِّ، قَالَ: «بَرَّ وَلَدَكَ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يَبَرَّكَ، فَإِنَّ مَنْ شَنَأَ عَقَّهُ وَلَدُهُ»: وقوله: (من شَنَأ) وقع في بعض الرواياتِ هكذا، فالمعنى: من أبغض ولده دفعه إلى العقوق، ويُروى (من شاء)، أي بإمكانِ كلِّ والدٍ ووالدةٍ أن يعاملَ ولدَه بما يدفعه إلى العقوقِ، طبعاً تلك المعاملةُ السيّئةُ من الوالدين لا تُبيحُ العقوق بلا شكٍّ، ومن أهل البرِّ والتقوى من لا يُلجئه سوء معاملةِ الوالدين إلى العقوقِ، بل يصبر ويحتسب، ويتسامى عن العقوق، لكن لا ينبغي للوالدين أن يعرِّضا الولد لهذا الامتحانِ، لا سيّما إن علما أنه لن ينجح فيه؛ وقد علَّل العلماءَ النهيَ الشرعيَّ الوارد عن المفاضلةِ بين الأولادِ في العطاءِ بأنَّ المحرومَ أو المُعطى أقلَّ يحمله ذلك على عقوق والديه. الثالثة: الإساءةُ إلى الولد وكسر مشاعره أسلوبٌ تربويٌّ فاشلٌ، وهذا النوع من التربية يضيِّع حقوق الوالدين وحقوق الولدِ المتعرِّض لهذه المعاملة، وهو بذرٌ لإشكالاتٍ كثيرةٍ، قد تصطلي الأسرةُ والمجتمعُ بها، أمّا تضييعه لحقوق الوالدين؛ فَلِمَا تقدّم من كونِه سبباً للعقوقِ، وأما تضييعه لحقوق الولدِ؛ فلأنّ الإساءةَ تدميرٌ ممنهجٌ للنفسيّة، فالإنسانُ المعنَّفُ جسديّاً ولفظيّاً لا يسهل أن يتخطّى العقباتِ النفسيّةَ التي يضعها التحطيمُ في طريقه، وأما كونُه بذراً للإشكالات؛ فإنّ هذا المعنَّف يصعب أن تكونَ له طريقةٌ يتعامل بها مع أسرتِه ومع الآخرين إلَّا تلك الطريقة المسيئة التي تلقاها من والديه وأسرته.