لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة حسابية صماء، بل هو الآن يقف على عتبة الوجدان البشري، يقلد نبرة الشاعر، ويحاكي سرد الروائي، ويولّد مقاطع للآخرين دافعاً الساحة الثقافية لمواجهة إحدى أهم الثنائيات الوجودية في عصرنا: الأمانة والخيانة، هي ليست معركة بين الإنسان والآلة فحسب، بل امتحان أخلاقي جديد لنية المبدع ذاته. أمانة الآلة الوظيفية هي نعمة لا يمكن إنكارها، إذ تمنحنا وقتا للتفكير العميق بديلا عن الغرق في التنقيب، بيْد أن الوجه الآخر لهذا التطور يكمن في خيانة البشرية للأصالة. فالخطر الحقيقي لا يكمن في قدرة الآلة على الكتابة، بل في إرادة الإنسان على التخفي خلفها. عندما ينسب الكاتب نصا مولدا بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي لجهده البشري الخاص، فإنه يرتكب خيانة مزدوجة: خيانة للقارئ الذي يتوقع أن يلامس روحا وتجربة ذاتية، وخيانة للإبداع ذاته الذي يختزل إلى مجرد تجميع خوارزمي للأنماط اللغوية المتاحة. يصبح هذا التستر "انتحالا مقننا"، يغتال الذاتية ويزرع الوهم الإبداعي في عقل المتلقي. إن الأدب في جوهره هو تعبير عن قصور الإنسان، عن آلامه، تناقضاته، ولحظات إلهامه النادرة؛ فماذا يعني أن نقرأ نصا خاليا من هذه الشقوق والندوب البشرية؟ إنها دعوة لتسطيح الوجدان. قد تتحول الآلة من شريك محايد إلى مروج غير إرادي للتنميط الثقافي، معرضة الثقافة المحلية للتآكل البطيء وغير المرئي، الخطر يكمن في أن الأدب المبرمج، وإن كان فصيحا، سيفشل في التقاط الرمز المحلي العميق، أو النكتة العابرة للثقافة، أو الحكمة المتوارثة شفهيا. إن الأمانة الثقافية تفرض علينا استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة لتعميق صوتنا الخاص، لا لجعله صدى خافتا لأصوات الآخرين. على هذه الخلفية، يتضح أن مسؤولية الأمانة تقع بالكامل على عاتق الإنسان. الذكاء الاصطناعي لا يمتلك "النية" ليخون، بل يمتلك "القدرة" على الإيهام؛ إنه مجرد مرآة ضخمة وفائقة السرعة تعكس ما نغذيه بها. إن الكاتب الذي يطلب من الآلة أن تكتب له قصيدة، ثم يتخلى عن إعادة تشكيلها بوجدانه الخاص، هو الذي يمارس خيانة التخلي عن دوره الأصيل كمفكر وناقد وصاحب بصيرة. يجب أن نؤمن أن الإبداع البشري الحقيقي سيظل متفوقا بسبب قدرته على القفز خارج إطار البيانات المتاحة؛ فالفن يولد من اللحظة الفوضوية، من الخطأ غير المتوقع، ومن النقص الذي يرفض المنطق الخوارزمي. إن الآلة، بلا وعي أو قصدية أخلاقية، لا يمكنها أن تكون خائنة بمعنى الكلمة؛ فخطؤها هو قصور في البيانات أو الخوارزمية، أما الإنسان فهو الكيان الوحيد القادر على اتخاذ قرار الخيانة بوعي كامل. فالمسؤولية الكبرى تقع على المبدع الذي يختار استخدام الذكاء الاصطناعي ب"أمانة" (للبحث والتمكين) أو ب "خيانة" (للانتحال والتزوير)، والكاتب الذي يتخلى عن تفكيره النقدي وبصمته الشخصية لمصلحة ناتج آلي جاهز، هو من يرتكب الخيانة العظمى بحق الإبداع. بصيرة: الذكاء الاصطناعي يكتب بالمنطق؛ بينما الإنسان يكتب بالوجدان والقصور الذي يشكل جماليات البشر..