في صمت الرمال، وبين تضاريس الصخر، وجنون التنوع تتحدث المملكة العربية السعودية بلغة التاريخ، وموطن الحضارات المتعاقبة، وشاهد حي على ولادة الإنسان، وتطور العمران، وتلاقي الثقافات. تسعى المملكة، من خلال رؤية 2030، إلى إعادة تعريف موقعها الحضاري عالميًا كأرض زاخرة بالإرث الإنساني، والمادي والطبيعي، وقد باشرت الجهات المختصة، كمنظومة الثقافة، في خطوات نوعية للحفاظ على الآثار، وتسجيلها في قائمة التراث العالمي (اليونسكو)، لتصبح هذه المواقع رواة لقصة وطن لم ينقطع عن التاريخ. «عودة الماضي» في 26 يوليو 2022م، أعلنت هيئة التراث عن اكتشافات حديثة في «خشم قرية»، أحد جبال طويق المجاورة، تضمنت معبدًا حجريًا ومائدة قرابين، إضافة إلى نقوش دينية تُظهر ممارسات سكان الفاو العقائدية. كما كشفت البعثة عن بقايا مستوطنات تعود للعصر الحجري الحديث، فضلًا عن توثيق وتصنيف أكثر من 2807 مقابر، مقسمة إلى ست فترات زمنية، مما يعزز أهمية الفاو كموقع شهد تعاقب حضارات متعددة. «موقع لا يشبه سواه» تقع قرية الفاو جنوب غرب الرياض بنحو 700 كم، على الحافة الغربية للربع الخالي، وتتقاطع جغرافيًا مع وادي الدواسر، وتبعد عن مركز المحافظة ب150 كم. وهي محاطة بمنطقة عازلة تبلغ 275 كم2، بينما تمتد مساحة محميتها الأثرية إلى 50 كم2. هذه البقعة الجافة اليوم كانت يومًا من أكثر المناطق الحيوية على طرق القوافل، وواحة نابضة على درب تجارة البخور، تربط الجنوب العربي ببلاد الرافدين. وفي العصور القديمة عُرفت قرية الفاو باسم «قرية ذات كهل»، وكانت عاصمة لمملكة كندة الشهيرة، التي كان لها حضور بارز في الجزيرة العربية لقرون طويلة. شكّلت الفاو مركزًا تجاريًا محوريًا، ومفترق طرق حيوي على درب الحرير وطريق نجران، واحتضنت نحو 17 بئرًا عززت الاستقرار والزراعة والتجارة. «أثر يتكلم» ما بين معابد وأسواق، ومنازل وآبار، ومقابر متنوعة، تكشف قرية الفاو عن أساليب معيشية متطورة. وُجد فيها أثاث أثري فريد مما يبرهن على رُقي الذوق والثراء المادي للسكان. ولم تكتفِ الفاو بالأثر المادي، بل كانت أيضًا موطنًا للغة. فقد ظهرت عشرات النقوش والكتابات بالعربية المبكرة، تناولت قضايا دينية وتجارية، تشهد على وعي فكري وعمق اجتماعي وثقافي. «عابرة الحدود» من أبرز ما وُجد في قرية الفاو، تأثيرات الفن الهلنستي اليوناني في التماثيل واللوحات، وهو ما يكشف عن تفاعل حضاري مع ثقافات بعيدة. لقد كانت الفاو، رغم بعدها الجغرافي، نقطة تلاقي ثقافي وحضاري لممالك وأمم عدة، وهذا ما يعزز قيمتها الإنسانية والعالمية. «مقابر وفية» تقع المقابر على الطرف الغربي للفاو وقد تنوعت بتنوع الطبقات الاجتماعية فمنها مقابر عائلية ومقابر النبلاء ومقابر العامة، هذه المقابر فضلاً عن روايتها قصص الموت إلا أنها تُبرز تفاصيل حياة مجتمع بأسره، من طبقاته العليا إلى العامة. «الفاو في اليونسكو» في عام 1446ه/2024م، سُجّل «المنظر الثقافي لمنطقة الفاو الأثرية» ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، ليصبح ثامن موقع سعودي يحصل على هذا الاعتراف العالمي. انضم الموقع بذلك إلى قائمةٍ ذهبية تشمل الحجر، والدرعية، وجدة التاريخية، وفنون حائل الصخرية، وواحة الأحساء، وحمى الثقافية، ومحمية عروق بني معارض.