في سباق التقدم العلمي والطبي، كثيراً ما ننشغل بالمرض ذاته: أسبابه، آلياته، علاجاته، وسبل الوقاية منه. لكن السؤال الأعمق الذي ينبغي مواجهته هو: هل المشكلة دائماً في المرض أم في النظام الذي يتعامل معه؟ هذا السؤال ليس فلسفياً، بل عملياً يمس جوهر مفهوم «الصحة». اعتدنا تفسير جودة الرعاية الصحية عبر عدسة الطبيب أو بالأحرى الممارس الصحي: مهاراته، شهاداته، خبرته. أو عبر عدسة الموارد: الأجهزة المتقدمة، المختبرات، العلاجات المتطورة. لكن هناك عامل مهم غالباً ما يكون أقوى من كل ذلك: النظام الصحي الذي ينسق، ويوجه، وينظم رحلة المريض داخل المؤسسة الصحية. ثقافة الجودة داخل المستشفيات ليست بنداً يراجع في تقرير، ولا ملصقاً على الجدار، ولا خطاباً يلقيه مدير المستشفى في بداية العام. إنها ممارسة يومية وسلوك جماعي والأكيد أنها مسؤولية الجميع. حين يلتزم كل فرد من العاملين بالتعقيم، بإجراءات السلامة، بالتبليغ عن الخطأ دون خوف، باحترام الوقت والمريض والزملاء، فإن المؤسسة تنتقل من التظاهر بالجودة إلى عيش الجودة. الإدارة الصحية هنا تصبح جزءاً من العلاج ذاته. هي لا تعمل في الظل، بل تقف في قلب التجربة العلاجية. وجود مسار واضح لحركة المرضى، جاهزية التعامل مع الحالات الحرجة، ضبط عدوى المنشآت الصحية، استثمار الكادر عبر التدريب المستمر، توزيع الموارد بشكل حكيم يقلل الهدر ويعظم الاستفادة كل ذلك يصنع الفارق بين مؤسسة تنقذ المرضى، وأخرى تكون سبباً في تدهور صحتهم. حين تنجح الأنظمة في خلق بيئة منضبطة، يقل الارتباك، ويقل الخطأ، وتتحول المستشفى من مجموعة أطباء وممرضين يعملون بشكل فردي إلى آلة جماعية متناغمة تعمل لأجل هدف سامي: رعاية المريض والحفاظ على سلامته. ويمكن النظر إلى ما يحدث اليوم في المملكة ضمن التحول الصحي باعتباره مثالاً على إعادة هندسة النظام: من التركيز على الخدمة، إلى التركيز على النتيجة الصحية من علاج المرض فقط، إلى بناء الصحة ومن رعاية تعتمد على رد الفعل، إلى رعاية استباقية تهدف للوقاية. المفارقة الكبرى هنا هي أننا اعتدنا النظر إلى الرعاية الصحية عبر الإجراءات الطبية، بينما هي في الحقيقة فعل تنظيمي وسلوكي بقدر ما هو إجراء طبي. الممارسة الطبية دون نظام قوي قد تشبه مهندساً بارعاً يعمل بأدوات ممتازة داخل ورشة فوضوية لا يعرف فيها أحد أين يضع قدمه. التحسين الحقيقي لا يبدأ دائماً من قاعة العمليات أو غرفة التشخيص، بل من بناء ثقافة داخل المؤسسة: ثقافة احترام البروتوكولات، ثقافة التعلم من الأخطاء بدل دفنها، ثقافة اعتبار الجودة التزاماً أخلاقياً لا إجراءً إدارياً أو لأجل الحصول على الاعتمادات. في النهاية، السؤال ليس: كم طبيب لدينا؟ ولا: ما أحدث جهاز أو تقنية نملكها؟ بل الأهم أن نسأل ما مدى قوة البيئة التي يعمل فيها الطبيب، ومدى جاهزية النظام الذي يحمي المريض من الخطأ، ومن الإهمال، ومن الفوضى غير المقصودة؟ المريض يحتاج إلى دواء... لكن المستشفى تحتاج إلى نظام. ونظام جيد... قد يضاهي أو يفوق في الأهمية كفاءة الطبيب وفعالية العلاج.