استُضفتُ قبل عامين تقريبًا في بودكاست، وكان الحديث عن (الابتكار الاجتماعي) وتطور مفاهيمه وممارساته في السياق السعودي محورًا أساسيًا، ليس بوصفه موضوعًا للنقاش الأكاديمي فحسب، بل كحالة متحركة داخل الميدان المجتمعي، تحاول أن تجد مكانها كأداة استراتيجية لإحداث الأثر المستدام، لماذا؟، لأن القطاع الثالث يعي أن دوره لم يكن دورًا تكميليًا، بقدر ما أصبح مُساهمًا مباشرًا في التنمية الوطنية، وميدانًا واعدًا للابتكار في معالجة التحديات الاجتماعية بطريقة جديدة، قائمة على الفاعلية والتأثير والاستدامة. وجدت، من خلال هذه المشاركة وما تلاها من ممارسات عملية، أن الابتكار الاجتماعي لا يزال يُفهم –في كثير من المبادرات الأهلية– بوصفه تحسينًا إجرائيًا أو فكرة إبداعية منعزلة، في حين أن جوهره هو تحويل النظام الاجتماعي من خلال أدوات غير تقليدية تؤدي إلى نتائج مختلفة ومستدامة، وهذا ما يجعل له دورًا مركزيًا في الحراك التنموي الطموح الذي تقوده رؤية السعودية 2030، التي تسعى إلى تمكين القطاع غير الربحي ليكون فاعلًا في التنمية الوطنية، ورفع مساهمة القطاع إلى 5 % من الناتج المحلي –وصلت مساهمة حاليًا 3,3 %- وزيادة عدد المتطوعين، وتحقيق فاعلية أعلى في الأداء، لذا، فإن الابتكار الاجتماعي يمثل ركيزة لا يمكن تجاهلها، لا سيما حين يُوَظَّف في تصميم حلول جديدة للمشكلات المجتمعية المزمنة بطرق تتجاوز الأساليب التقليدية المعتمدة على الدعم المالي أو الخدمة المباشرة. من خلال تواصلي واللقاءات المباشرة مع عدد من المؤسسات المانحة، لاحظت تغيرًا نوعيًا في وعيها بأهمية الابتكار، خصوصًا تلك التي بدأت في إطلاق منح مخصصة لمشروعات الابتكار الاجتماعي، وتشجيع الجمعيات على تقديم أفكار نوعية بدلاً من التكرار النمطي للبرامج، ما يعني أننا بحاجة إلى إطلاق برامج تحفيزية تعتمد على تحليل المشاكل المحلية بمنهجيات التصميم التشاركي، للسماح بظهور مبادرات غير مسبوقة -على سبيل المثال لا الحصر- في مجالات تمكين الأسر المنتجة رقمياً، والتدخل المبكر في التحديات النفسية لدى المراهقين في القرى النائية، أو حتى تقديم حلول مبتكرة ذات أثر اجتماعي في موسم الحج؛ فالتحديات المرتبطة بالحشود، والضيافة، وسلوكيات النسك، يمكن معالجتها بتصميم مبادرات مجتمعية مبتكرة. في جمعية ترميم للتنمية بمنطقة مكةالمكرمة، خضنا تجربة واضحة في هذا الاتجاه، إذ لم يكن ترميم منازل الأسر الأشد احتياجًا نشاطًا خدميًا بالنسبة لنا، بل مشروعًا تنمويًا قائمًا على ابتكار النموذج الخيري نفسه، بإعادة صياغة العلاقة بين الجمعية والمستفيد، لتتحول من علاقة عطاء فردي إلى شراكة مجتمعية تنموية، تتداخل فيها جهود المتطوعين، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، والجهات الحكومية، وتطلب هذا التحول تغيرًا في تصميم نماذج التدخل، وتحليل سلاسل الأثر، وبناء مؤشرات أداء جديدة، وتطوير حوكمة التبرع العيني والخدمي. انطلاقًا مما سبق، هناك حاجة ملحة لتطوير إطار وطني معياري للابتكار الاجتماعي في القطاع غير الربحي، يرتكز على تعريف وطني موحد للابتكار الاجتماعي، يراعي الخصوصية الثقافية والتنموية لمجتمعنا، دون أن يفقد صلته بالمعايير العالمية، فيما يُمكِّن معيار تصنيف مستويات الابتكار، من الابتكار التحسيني إلى الابتكار التحويلي، الجهات المانحة من تقييم المبادرات وفقًا لنطاق أثرها، وليس فقط مخرجاتها، ويدعم معيار بناء القدرات الابتكارية في الجمعيات، عبر مراكز تفكير داخلية، ومختبرات ابتكار تشاركية، تصميم الحلول بناءً على بيانات واقعية، إضافة إلى معيار إنشاء حاضنات الابتكار الاجتماعي، بالشراكة مع الجامعات والقطاع الخاص، لربط البحث العلمي بالعمل الميداني، فضلًا عن معيار تحفيز التمويل الابتكاري، الذي يربط العوائد الاجتماعية بالمخرجات القابلة للقياس، وتوسيع نماذج الاستثمار الاجتماعي. في النهاية، إن التحول الذي تطمح إليه رؤية 2030، يوجهنا إلى إعادة النظر في أدواتنا، ومفاهيمنا، ونماذج عملنا داخل القطاع الثالث، كون الابتكار الاجتماعي ضرورة استراتيجية لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، والتحرر من النماذج القديمة، والانطلاق نحو حلول أكثر اتساقًا مع الواقع وجرأة في التغيير، وآن الأوان لبناء هذا التوجه مؤسسيًا، بمبادرات وطنية مشتركة، تؤطر الابتكار الاجتماعي ضمن أولويات القطاع الثالث، وتربطه بعمق التحول الوطني الذي تعيشه المملكة اليوم بدعم غير محدود من قيادتنا الرشيدة –حفظها الله-. د. عبدالله آل دربه