هذه الحرب ليست فقط حربًا بين طهران وتل أبيب، بل هي فصل جديد من فصول الصراع على النفوذ في عالم يتغير بسرعة، والسؤال الذي يبقى مطروحًا: هل نشهد ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب، أم محاولة أخيرة من قوى كبرى للحفاظ على تفوقها؟ هذه الأسئلة ينبغي ألا تُهمَل، بل تُطرح بعمق على طاولة النقاش العربي، لتحديد موقعنا كدول وشعوب وسط هذه التحولات المتسارعة.. .في خضم تصاعد وتيرة المواجهة العسكرية بين إسرائيل والجمهورية الإسلامية الإيرانية، تتجه الأنظار إلى تفاصيل الضربات الجوية والهجمات الصاروخية، ولكن السؤال الأهم يظل خلف هذه النيران: ما الدوافع الحقيقية لهذه الحرب؟ وهل يختزل هذا الصراع في مسألة تخصيب اليورانيوم وصناعة القنبلة النووية، أم أن هناك أهدافاً أوسع ترتبط بإعادة تشكيل النظام العالمي نفسه؟ إن المشهد الإقليمي والدولي اليوم لا يمكن قراءته فقط من زاوية ما يحدث فوق الأرض، بل لا بد من فهم ما يجري خلف الكواليس، وفي غرف صنع القرار الكبرى، حيث تُرسم خرائط جديدة ويتحدد مصير تحالفات إقليمية ودولية كانت في طور التشكل. لطالما اتخذت المواجهات بين إيران وإسرائيل شكلًا غير مباشر، عبر ساحات مثل سوريّا ولبنان وغزة، لكن الضربة الإسرائيلية الأخيرة داخل العمق الإيراني –والتي استهدفت منشآت نووية وعسكرية حساسة– تشكل نقطة تحوّل، فالرد الإيراني بالصواريخ الباليستية والطائرات الانتحارية المسيّرة، واستهدافه للمدن المحتلة، يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك، أن هذه الحرب خرجت من عباءة "الرسائل المحدودة" إلى مواجهة مباشرة تُنذر بتبعات خطيرة على المنطقة. في حين يصوّر الإعلام العالمي أن السبب الرئيس لهذه المواجهة هو المشروع النووي الإيراني، فإن تحليلاً أعمق يكشف أبعادًا أخرى، منها أن إيران في السنوات الأخيرة عززت علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع الصينوروسيا، وشاركت في مبادرات استراتيجية كبرى مثل الحزام والطريق، فضلًا عن رغبتها بالتخلي عن الدولار لصالح عملات أخرى في عمليات بيع النفط، كما أبدت اهتمامًا واضحًا بالانضمام إلى مجموعة "بريكس". وهو ما قد يمنحها –في نظر الساسة الإيرانيين- محاور أكثر قوة واستقلالًا عن المنظومة الغربية. من هنا، يبرز سؤال استراتيجي: هل كانت واشنطن وإسرائيل تسعيان من خلال هذه الحرب إلى كسر هذه العلاقات ومنع إيران من التحول إلى ركيزة في محور دولي بديل؟ أم أن المسألة لا تتعدى كونها ضربة استباقية لمنع امتلاك السلاح النووي فقط؟ على الرغم من أن الضربات نُفّذت بأيدٍ إسرائيلية، فإن مؤشرات كثيرة تدل على وجود تنسيق عسكري واستخباراتي مع واشنطن، سواء من خلال تزويد إسرائيل بأنظمة اعتراض متقدمة، أو عبر دعم لوجستي ومعلوماتي، فإن حضور الولاياتالمتحدة في المشهد لا يمكن إغفاله. لكن الأهم من ذلك هو التساؤل: هل تسعى واشنطن من خلال هذا التصعيد إلى فرض واقع جديد في الشرق الأوسط يمنع توسع الصين ونفوذ روسيا، ويفرض مجددًا هيمنة أميركية على المنطقة؟ وهل ما نشهده هو حرب عسكرية ذات غطاء جيوسياسي أوسع يهدف إلى إعادة ضبط مسار النظام العالمي؟ من خلال ما قرأته وسمعته من تحليلات متعمقة، فإن هذه الحرب لم تقع في فراغ، بل تتفاعل تداعياتها مع قضايا الطاقة، وتحالفات الخليج، وأسواق المال العالمية، وقد ارتفعت أسعار النفط، وأبدت بعض دول المنطقة قلقها من تهديد استقرار مضيق هرمز وأمن المنطقة، كذلك، فإن امتداد الحرب إلى مناطق أخرى مثل سوريّا أو العراق أو لبنان قد يفتح جبهات جديدة يصعب احتواؤها. كما أن تأخر انضمام إيران لمجموعة "بريكس"، أو تحجيم نفوذها في التحالفات الاقتصادية والسياسية مع القوى الكبرى، قد يكون من الأهداف غير المعلنة لهذه الحرب. رغم ضجيج السلاح، تبقى الخيارات مفتوحة، فإما أن يستمر التصعيد نحو مواجهة أوسع بمشاركة قوى إقليمية ودولية، أو أن يتم احتواء الصراع بوساطات دبلوماسية تحفظ ماء وجه الأطراف المتصارعة. لكن من يضمن أن هذه الحرب لن تُستخدم كذريعة لإعادة ترتيب توازنات القوة؟ أو كمدخل لتأسيس نظام دولي جديد لا يتسع لخصوم واشنطن وبكين وموسكو في آنٍ معًا؟ في النهاية، هذه الحرب ليست فقط حربًا بين طهران وتل أبيب، بل هي فصل جديد من فصول الصراع على النفوذ في عالم يتغير بسرعة، لذا، السؤال الذي يبقى مطروحًا: هل نشهد ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب أم محاولة أخيرة من قوى كبرى للحفاظ على تفوقها؟ هذه الأسئلة ينبغي ألا تُهمَل، بل تُطرح بعمق على طاولة النقاش العربي، لتحديد موقعنا كدول وشعوب وسط هذه التحولات المتسارعة.. دمتم بخير.