في السنوات الأخيرة، انتشرت ثقافة «قدّر نفسك، ولا تقبل إلا بما تستحق»، حتى كادت تتحول من دعوة للتوازن النفسي إلى وصفة جاهزة للأنانية والقطيعة. صرنا نقرأ -ونردد- شعارات من قبيل: «لا تقل نعم، تعلّم أن تقول لا»، «لا تضحي لأجل أحد، فالكل يختار نفسه»، «ارفع استحقاقك، ولا ترضَ بالقليل». جميل، نظريًا، لا غبار على المفاهيم، لكن المشكلة لم تكن يومًا في الشعار، بل فيمن يحمله، وفي كيف يترجمه على أرض الواقع. فما حدث فعلًا، أن تلك العبارات انتُزعت من سياقها العلاجي، وغُلفت بورق لامع من «الوعي»، ثم أُلقيت في يد شخص لم يعرف أصلاً كيف يقول «نعم» دون أن يشعر بالانكسار. والنتيجة؟ جيل كامل يرى في كل علاقة فرصة للهرب، وفي كل خلاف مبررًا للانسحاب، وفي كل تضحية خيانة للذات. تحوّل مفهوم الاستحقاق من إدراك لقيمتي كإنسان، إلى مقارنة يومية بإنجازات غيري، وتحوّل رفض الاستغلال إلى رفض للمسؤولية، ورفض التنازل إلى تمرّد على كل شيء لا يُلبّي هواي فورًا. حتى كلمة «نعم» البسيطة، تلك التي تُبنى بها الصداقات، وتُرمم بها الخلافات، وتُحفظ بها العلاقات.. صارت متهمة بالضعف والخنوع! لكن مهلاً.. لو قلنا كلنا «لا» -لا أقدر أحدًا لا يقدرني أولًا، لا أتصل إن لم يتصل هو، لا أعتذر إن لم أُخطئ بنسبة 100 %، لا أبذل جهدًا إن لم يُقابل بمثلِه- فمن الذي سيقول «نعم»؟ من الذي سيسامح أولاً؟ من الذي سيتنازل عن كبريائه ليحافظ على الود؟ من الذي سيبادر إذا ظللنا ننتظر المبادرة من الطرف الآخر؟ الاستحقاق الحقيقي لا يعني أن أعيش في برج عاجي لا أمدّ منه يدًا ولا أفتح فيه بابًا، بل أن أعرف متى أقول «لا» بكرامة، ومتى أقول «نعم» بنُبل. فالناس لا تلتف حول الأناني، حتى لو كان «يحب نفسه»، ولا تأنس بالمترفّع، حتى لو كان «واعيًا». الحياة لا تبنى بالشروط، بل بالمواقف، ولا تستقيم بالمساواة المطلقة، بل بشيء من التغاضي، وكثير من الطيبة. في زمن أصبح فيه الجميع مشغولًا بتحديد «ما لا يريد»، صار من النادر أن نجد من يعرف ما الذي يريد فعلاً أن يعطيه. فلا بأس أن تقول «لا» أحيانًا... لكن لا تجعلها جوابك الافتراضي، لئلا تستيقظ يومًا وتجد نفسك محاطًا بذاتك فقط، وقد رحل عنك كل من كان ينتظر منك.. «نعم».