التعليل هو علاقة بين السبب والمسبب، ويندرج في نسقه مباحث أخرى ذات قربى، كالتعليل المعروف عند اللغويين ب (العلة النحوية)، (والتعليل الصرفي) وربما انساق في أثر ذلك ما يُعرف عند البلاغيين ب (حسن التعليل)، ومثله التعليل عند الأصوليين، والفلاسفة، والمناطقة، وغيرهم، ولئن إن اختلفت استعمالات التعليل، أو مجالاته، أو موضوعاته، فإنه لا يذهب بعيداً عن التفسير، وكشف المراد، والإقناع، وكذا التعليل في عمومه؛ فإنه يؤدي أهدافاً حجاجية من خلال روابط مختلفة يكشفها السؤال الجوهري (لماذا؟!). وينهض التعليلُ بوظيفةٍ إقناعية، إذ هو وسيلة قولية أو كتابية تجعل المعنى أكثر قبولاً وتسليماً؛ ولهذا يُستخدم التعليل عند عامة الناس وخاصتهم، وهو عند أهل اللغة: «تبيين علّة الشيء»، أي توضيح الأسباب ومسبباتها، ويعرف عند التداوليين ب(الاستدلال) الذي هو: استنتاج شيء من شيء آخر، والانطلاق من المسبب إلى السبب، ومن الوقائع الخاصة إلى القوانين، ويطلق بعض المهتمين بالحِجَاج على هذا النمط التعليلي (القيمة الاستدلالية)، أي أن الأهمية ليست في المعنى، بل بالشكل المنطقي الذي أنتج المعنى. على أن التعليل على إطلاقه استعمال معروف، وربما كان استخداماً يومياً، لكنه لا يكتسب قيمته التواصلية والحجاجية إلا حينما يرتبط بظروف المخاطب، وأحواله، ومقتضياته، وقرائن كلامه، وسياقات أسبابه ومسبباته، فمن ها هنا كان التعليل مهماً في الكشف، والتوضيح، والإقناع، والإمتاع، وعندئذٍ يصبح حجة من حجج القول، واستراتيجية من استراتيجيات الخطاب، وبخاصة إذا كان مرتبطاً بنص أدبي: شعريٍّ، أو نثري. إننا حين نطالع الشعر العربي القديم مثلاً نجده يطفح بما يمكن أن نطلق عليه (التعليل الحجاجي)، ومن يفتّش في شعر بعض الشعراء يجدهم ينطلقون من التعليل لإثبات حجة معيّنة، تزيد من خلالها قناعة المتلقي، فيكون ذكر السبب رافداً مقويّاً للمسبب، ولننظر مثلاً في قول الشاعر أبي طاهر محمد بن حيدر البغدادي (517ه) صاحب كتاب (قانون البلاغة) فإنه لما رثى نفسه بقصيدته الوحيدة الفريدة قال: «خليليَّ هذا آخر العهد منكما // ومني فهل من موعد نستجدّه؟ = لأنَّ أخاكمُ حَلَّ في دار غربةٍ // يطول بها عن هذه الدار عهده = فلا تعجبوا إذ خفّ للبين رحله // وقد جدّ في أثر الأحبة جدُّه..»، فالشاعر هنا لما أراد إقناع مخاطبه بأن هذا اللقاء الأخير هو آخر العهد، عَللّ هذا الوداع بأنه حَلّ في دار غربةٍ يطول بها عن هذه الدار عهده. وروي أنّ عمر بن العلاء وَصَلَ أبا العتاهية بسبعين ألف درهم، وذلك عن قصيدته التي مطلعها: «إنّي أمنت من الزمان وريبه ..»، فحسدته الشعراء، وقالوا: لنا بباب الأمير أعوام نخدم الآمال، ما وصلنا إلى بعض هذا! فعلم بهم، فأمر بإحضارهم، فقال: بلغني الذي قلتم، وإنّ أحدكم يأتي فيمدحني بالقصيدة يشبّب فيها، فلا يصل إلى المدح حتى تذهب لذّة حلاوته، ورائق طلاوته، وإنّ أبا العتاهية أتى فشبّب بأبيات يسيرة، ثم قال: إنّ المطايا تشتكيك (لأنّها).. وأنشد الأبيات. فهذا البيت «إنّ المطايا تشتكيك (لأنّها) // قطعت إليك سباسبا ورمالا»، هو الذي جعل الممدوح يتفاعل مع النص، وتفاعله إنما أتى من خلال التعليل (لأنها قطعت..)، حيث أسهم التعليل بزيادة مستوى الاقتناع لدى المخاطب، فصار القولُ الأول (إن المطايا) نتيجةً تخدم القول الثاني (قطعت إليك) الذي هو حجة ولدت من التعليل.