لم يعد العالم في هذا العصر سهل الانعزال بل صار شبكة حية تداخل فيها المحلي بالإقليمي بالدولي وتعددت مستويات التفاعل وتولدت الحاجة إلى رؤية مراكز الدراسات والمؤسسات البحثية في مساندة راسم السياسات والاستراتيجيات.. ناقش د. عبدالعزيز بن عبداللطيف آل الشيخ في مقال صحفي نشر في صحيفة الجزيرة الأسبوع الماضي فكرة إنشاء معاهد دراسات متخصصة في مجال الدراسات الآسيوية، والإفريقية، والأميركية، واللاتينية، والأوروبية في الجامعات. وهذا حد أدنى من واجب الجامعات وواجب المثقف الحديث فأقسام ومراكز ومعاهد الدراسات موضوع علمي كبير ومتداخل يسهم فيه علماء السياسة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافيا وعلم النفس كما يشارك فيه علماء الاستراتيجيات والاستشراف، وما من دولة في عالم اليوم إلا وهي مدفوعة إليه. فليست مراكز الدراسات في الجامعات مجرد قاعات أكاديمية لدراسة التاريخ والجغرافية وإنما تتعدى هذا الدور إلى دراسة الدول دراسة دقيقة وشاملة تصل في معظم حالاتها إلى العمق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والحضاري والاستراتيجي وذلك عن طريق الأبحاث والدراسات الاستكشافية الجادة. ولا نظن أن أحدًا لا يدرك الأهمية الكبيرة لهذا الموضوع العلمي، فأقسام ومراكز الدراسات تمثل ركنًا أساسيًا في الرسالة الملقاة على عاتق الجامعات. يترتب على ما سبق سؤال مهم: هل هنالك معوقات أكاديمية تجعل جامعاتنا لا تقدم على تلك الخطوة الرئيسة وهي تأسيس معاهد أو أقسام أو مراكز للدراسات الدولية أو القارية أو الإقليمية؟ فأقسام الدراسات صارت الآن جزءًا أساسيًا داخلًا في التكوين الأكاديمي الجامعي ولا تستطيع أي جامعة مهما كانت تجربتها الأكاديمية إلا أن تضع مراكز الدراسات في أولوياتها الأكاديمية. فالعصر بتفاعلاته المستمرة صار يفرض علينا حضورًا دوليًا متمكنًا، هذا الحضور يحوجنا إلى خبراء متخصصين نافذين ولن يكون لدينا متخصصون ما لم يكن لدى جامعاتنا أقسام للدراسات تبني لنا تصورًا واضحًا للعالم. فإذا كنا نستقي رؤيتنا لإفريقيا مثلًا من منظور مركز الدراسات الإفريقية في الجامعات الأميركية أو الفرنسية أو غيرها أليس من الأولى أن نأخذ رؤيتنا عن تلك القارة من جامعاتنا؟ وهذا ينسحب على آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية وروسيا فإذا كانت الجامعات استعارت ممن سبقنا مناهج البحث العلمي والنظام الأكاديمي وغرستها في الحياة الجامعية فإن مراكز الدراسات تقليد جامعي قديم وعريق ومكون مهم من مكونات الحياة الأكاديمية فهي في دول الغرب الصناعي متسعة لأبعد الحدود وخصوصًا في الولاياتالمتحدة الأميركية. واليوم نعيد طرح مراكز الدراسات من جديد وبالذات في هذا الوقت الذي نأخذ فيه بأسباب الحضارة؛ لأن الدراسات والأبحاث هما القاعدة التي يجب أن تعتمد عليها حضارتنا وثقافتنا وإسهامنا في تقدم البشرية، كل هذه الأسباب تعتمد على الدراسات والأبحاث اعتمادًا كليًا مباشرًا. والحديث عن الدراسات والأبحاث لا يمكن أن يظل حديثًا عن قائمة من المعلومات مخزونة بين جدران الجامعات والمكتبات أو عن مجموعة من الشهادات العلمية فحسب، صحيح أن كل هذه دلائل على أن للدراسات والأبحاث دورًا في حياتنا الحديثة ولكن الأهم من ذلك هو أن تصير الدراسات قيمة إبداعية في حياتنا وعندها نكون قد بلغنا مرحلة تأصيل العلم في حياتنا وتأصيل حياتنا بالعلم. لقد وضعت الفلسفة العلمية الحديثة الدراسات والأبحاث في أولويات الحياة العقلية الناضجة فكلما زادت مكانة دولة ما في المجتمع الدولي كلما توسعت في حقول دراساتها وأبحاثها وعظم دورها في التفاعل مع العالم. مما يحتم علينا تفعيل مراكز الدراسات في حياتنا العلمية وكل لحظة تضيع في هذا المجال هو وقت مهدر يمتد بيننا وبين تأصيل العلم. وهذا يفضي بنا إلى التساؤل عن دور الجامعات في برنامج التحول الوطني ورؤية 2030. فإذا ما أرادت الجامعات أن تنسجم مع الرؤية فإن عليها أن تنخرط في برامج واسعة تساند برامج التحول الوطني وذلك عن طريق: إجراء الدراسات على الأصعدة الاستراتيجية والفكرية والاجتماعية والثقافية والحضارية. إثراء المشهد العلمي والثقافي والفكري محليًا وإقليميًا وعالميًا. تقديم الأفكار والرؤى والتحليلات المنهجية لصناع القرار والدعم المعلوماتي للهيئات والمؤسسات الرسمية. التفاعل مع الأحداث والتطورات والمتغيرات الإقليمية والعالمية. رصد وتدوين وتوثيق الأحداث الإقليمية والعالمية. إجراء الدراسات على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية. المشاركات العلمية وتبادل الخبرات مع مراكز وأقسام الدراسات والمؤسسات الفكرية في الجامعات والمعاهد العليا. استقطاب النخب العلمية إقليميًا وعالميًا من صناع قرار ومفكرين وباحثين وموسوعيين وأكاديميين وأصحاب مذاهب فكرية. نشر ثقافة الإبداع والابتكار وتنمية الحوار ما بين الثقافات والحضارات. فلم يعد العالم في هذا العصر سهل الانعزال بل صار شبكة حية تداخل فيها المحلي بالإقليمي بالدولي وتعددت مستويات التفاعل وتولدت الحاجة إلى رؤية مراكز الدراسات والمؤسسات البحثية في مساندة راسم السياسات والاستراتيجيات. على جامعاتنا أن تساير التطور الحضاري والثقافي وتفكر في إيجاد مراكز للدراسات، فمراكز الدراسات تظل الحلم الذي نتطلع إليه، فهل تبادر إحدى جامعاتنا إلى وضع اللبنة الأولى؟