تخليد ذكرى وثيقة طلب استقلال المغرب ارتدى طابعاً موحياً هذه المرة. فقد اختار الحزبان الرئيسان في المعارضة، الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، التعاطي مع الحدث التاريخي، من منظور مشترك يدفن صفحات مثيرة في خلافاتهما السابقة. ما يحيل على استعادة روح الوفاق الوطني التي أرخت لفترة الكفاح من أجل الاستقلال، وانتهت إلى تباين وصراعات أهدرت مزيداً من الوقت والجهد. أقرب إلى فهم خطوات التنسيق التي قطعت أشواطاً عدة، أن مساعي الحزبين وضعت الإصلاحات الدستورية والسياسية سقفاً مشتركاً، قاد في نهاية تسعينات القرن الماضي إلى تشكيل حكومة التناوب التي قادها الاتحاد الاشتراكي بزعامة رئيس الوزراء السابق عبد الرحمن اليوسفي، ثم جاء الدور ليتولى زعيم الاستقلال في فترة لاحقة مسؤولية رئاسة الحكومة في شخص الأمين العام السابق عباس الفاسي. فيما ساد اعتقاد بأن الحزبين سيفرضان نفوذهما السياسي لمرحلة أطول، انبرت صناديق الاقتراع في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، لقلب المعادلة، ومنحت حزب العدالة والتنمية الإسلامي صدارة المشهد السياسي. ساعده في ذلك زخم ما يعرف بالربيع العربي وحاجة الناس إلى حدوث تغيير يرشح الرهان على فاعليات، لم تتمرس على الحكم. إضافة إلى وقوع الأحزاب التقليدية تحت تأثير التدبير الروتيني الذي أشاع نوعاً من التراخي. كان الأمر أشبه بصدمة، استفاق منها «الاستقلال» عندما اختار العودة إلى صف المعارضة، بينما ارتضى حليفه «الاشتراكي» تقبل الأمر على مضض. وبدا بدوره كمن يحاول استجماع قواه عبر تمارين أكثر قسوة في ملعب المعارضة. وسواء فهم التنسيق الحالي أنه موجه ضد حكومة عبد الإله بن كيران نصف الملتحية أو محطة لاسترداد الأنفاس فإن المشهد السياسي في المغرب في طريقه لأن يعزز اتجاهات أقرب إلى التصادم مع بعضها. فقد وصف الاشتراكيون الحكومة بأنها تضم تيارات محافظة، وراحوا يبحثون عن معاودة بناء جبهة يسارية جديدة. فيما اختار الاستقلاليون تصعيد المواجهة قانونياً وسياسياً، من خلال رفع دعوى قضائية ضد رئيس الحكومة لاتهامه قياديين بالتورط في تهريب الأموال. بينما لاذ الحزب الحاكم إلى التلويح بوجود لوبيات ومراكز نفوذ ترغب في الحد من تجربته الإصلاحية التي وضعت «الحرب على الفساد» شعاراً لها. ولا تبدو الصورة رغم حرفيتها المغايرة لتجارب إقليمية أخرى بمنأى عن السقوط في مزالق معارك إسقاط الوجود. ذلك أن «العدالة والتنمية» يرى أنه أفلح في وقف مد انفلات الشارع الذي كان يغلي قبل أكثر من عامين، وأنه يغامر بشعبيته مقابل إقرار إصلاحات سيكون مفعولها قاسياً. غير أن معارك الإصلاح لم تغادر النيات ولا زالت تراوح مكانها وسط تردد يبعث على اليأس والقلق. إلى درجة أن خلافات السياسيين في المعارضة والحكومة طغت على ما عداها من مبادرات ملموسة. وفيما ترى السلطة التنفيذية أنها فتحت أوراش الإصلاح ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، من قبيل معاودة النظر في نظام المقاصة الذي يطاول دعم الدولة المواد الاستهلاكية الأساسية، مثل الزيت والسكر والدقيق ومشتقات المواد النفطية، وفتح كتاب نظام الإحالة على المعاش ومعاودة هيكلة المنظومة القضائية، يرى خصومها أنها زادت في حجم المديونية الخارجية وأوقفت سيل الاستثمارات وعلقت أشواط الحوار الاجتماعي مع المركزيات النقابية. وفي غضون ذلك، انشغل الرأي العام بحروب التكفير وإشكالات اللغة والهوية وحدود الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي في المرجعيات السائدة. أشبه بأشجار تحاول إخفاء الغابة، يبدو الحراك السياسي في المغرب أبعد عن الاستقرار عند ضفاف الإقلاع. وفيما اتسعت معركة الإصلاحات الدستورية إلى وفاق انبثق منه وثيقة متقدمة في توزيع الصلاحيات والاختصاصات، لم يتمكن الفاعلون السياسيون من تنفيذ مقتضياتها، في شكل قوانين تنظيمية وإجرائية، إلى درجة أن الولاية الاشتراعية في طريقها لاستنفاد نصفها، من دون تفعيل ولو جزء يسير من الآليات الدستورية. ثمة شلل يعتري المشهد السياسي، ناتج من تأثير صدمات محلية وإقليمية. ولكن من غير الوارد العودة إلى ما قبل أجواء الربيع العربي، فإن الانتقال إلى مرحلة جديدة بات يتطلب العودة إلى وفاق وطني أرحب. وكما يدفع حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي في اتجاه أن يشد الوفاق الجديد عناوين ومرجعيات تاريخية، فإن بقية الشركاء يرون أن الأمر يتطلب اتفاقاً مبدئياً على الطبعة الجديدة للتناوب، أي أن يترك للسلطة التنفيذية كما المعارضة فرصة استنفاد ولايتها. ثم تأتي المساءلة عبر صناديق الاقتراع. وبين المنظورين يطرح السؤال: هل في إمكان المغرب أن يصمد أكثر في وجه أزمات تحدق به من كل جانب. ليس أبعدها أن مسلسل الانتظارية طال أمده. ولا يبدو هناك ضوء في نهاية نفق التجاذب السياسي.