من خلف طاولة الحراسة في أحد المصارف، اعتاد حارس الأمن عبدالعزيز محمد أن يتناول وجبة الإفطار وحيداً، بعيداً عن دفئ العائلة، ودفئ الطعام أيضاً. المكان يخلو من أي ضجيج، عدا ضجيج أجهزة التكييف وشاشة المراقبة، ويعدّ يوم السبت عيده الأكبر، فهي الفرصة الوحيدة لتناول وجبة الإفطار مع العائلة بعد أن ينوب زميله عنه، ليتسنى له تناول هذا الطعام ليومين فقط خلال شهر رمضان، هما يوما إجازته الأسبوعية. قبل أن يعمل في وظيفة حارس الأمن، كان يقضي عبد العزيز نهار رمضان في سوق الخضار والفواكه، ينادي على المتسوقين ويغريهم بالشراء، وفي المساء يرجع ليتناول الإفطار مع عائلته، يقول «حين جاءتني هذه الوظيفة فرحت كثيراً واطمأن قلبي بأنني سأودع الشمس الحارقة، وأكون بالقرب من جهاز التكييف وفي مكان هادئ جداً، إلا أنني افتقد ليل رمضان ولا أعيش تفاصيله كالبقية». ويقضي يومه ما بين النوم في الصباح لساعات طويلة من العصر، ليتسلّم مهمته من زميله، عمل متواصل تختفي فيه كل الألوان، ويبدو الوقت بطيئاً جداً، وملامح الهدوء المملة تجعل من المكان فراغاً بلا حدود، ويقول عبدالعزيز: «على رغم ما نعانيه من تعب وفقدان للفرح في هذا الشهر الكريم، فمعاناتنا من ضعف مرتباتنا أكبر، فهي تحترق بسرعة البرق مع تلبية طلبات المواد الغذائية وحاجيات العيد، ولابد من أن أقترض مبلغاً ليغطي هذه المصاريف الباهظة». ولا يختلف حارس الأمن طلال الحبتر، عن زميله الذي يشاركه المعاناة ذاتها، وبالنسبة له لا يكتمل رمضان إلا بأطباق ينتظرها من عام إلى آخر، فالهريسة الحساوية، والساقو، هما جل ما ينتظر على مائدة الإفطار، إلا أنه حُرم منهما لأنه لا يحب أكلهما إلا وهما ساخنان، وظروف عمله أجبرته على التخلي عما يحب من أصناف الطعام. يقول: «في بعض الأيام أُجبر على شراء وجبة الإفطار من المطاعم القريبة، كحال المغتربين وآكله لإشباع جوعي فقط، وليس محبة فيه»، مضيفاً «تعد زوجتي وجبة الإفطار باكراً لآخذها معي في حافظات خاصة، وصدقني الأكل مع العائلة يضيف طعماً خاصاً إلى المائدة، لكن ليس بيدنا شيء، أنا محتاج إلى هذه الوظيفة، ويجب أن أتحمل عناءها». في رمضان الماضي اشتكى الحبتر لأخيه وحدته في وجبة الإفطار، لكن الأخ فاجأ أخاه بإحضار طعامه معه، وشاركه في ذلك اليوم المائدة، ويقول «فوجئت باتصال من أخي يقول إن زوجته أعدّت لي طبقين سيحضرهما، لكن المفاجأة حضوره وابنيه لتلك الوجبة، لتبقى هذه الصورة الإنسانية في مخيلتي إلى الآن، وهذه من أبرز ملامح التراحم في رمضان». ويرى أن «الحل الوحيد لمعاناة الكثيرين من حراس الأمن في القطاعات الحكومية والخاصة، هي «توظيف ضعف العدد الموجود بحيث أشارك الحراسة مع أحد الزملاء، حتى يتسنى لنا حرق الوقت بالتحدث ومشاركة الوجبات، وحتى توزيع فترات العمل من أجل الراحة والتركيز، لكن معظم تلك الجهات لا تراعي هذا الجانب المهم، وتلقي بكل ثقل الحراسة على حارس واحد فقط، وهذا أمر متعب جداً». ويبدو حارس الأمن علي العلي الذي يعمل في مستودع إحدى الشركات الخاصة، أكثر حظاً من زميليه، إذ إنه وفي أثناء أداء عمله يقوم بإعداد بعض أطباق الإفطار بنفسه، بعد أن وفّر له موقداً صغيراً، ولا يعتمد على الطعام من المطاعم، يقول «أجيد الطبخ وأتسلى به في وقت عملي، وأقوم به بعد أن أخذت إذناً رسمياً من مديري الذي تعاطف معي وسمح لي بالطبخ، وهذا خفف عليَّ معاناة مائدة الإفطار». ويوضح «لا يمكن مقارنة هذه الأجواء بأجواء العائلة، والمائدة الطويلة والطقوس الرمضانية الكثيرة، لكن تعودت على هذه الظروف وتأقلمت معها، ففي وقت الظهر تعد زوجتي بعض الأطباق البسيطة، وتترك لي مهمة الطبخ في مقر عملي، والاعتماد على النفس أصبحت غريزة وطبع خففا عليّ الكثير من المعاناة». وعن أطرف المواقف التي مرت به، يقول العلي: «نسيت مرة أن أضع الملح في أحد الأطباق، وهذا أمر أجبرني على تناول الطعام بلا طعم، ومرة جذبت رائحة الطبخ عدداً كبيراً من القطط الجائعة التي ضجت بالمكان، لكني اقتسمت الفطور معهم، وأصبحوا يتجمهرون في نفس الموعد من كل يوم». وقال: «في يومي الإجازة أساعد زوجتي في إعداد الإفطار، على رغم إصرارها عليّ لأن أرتاح وآخذ إجازة من الطبخ، إلا أن نفسي لا تطاوعني على ذلك، فأعد طبقين أو ثلاثة، وأحرص على ألا يفوتني يوم من دون أن أمارس فيه هوايتي المفضلة الطبخ».