العملية التي قام بها فدائيان فلسطينيان من كتائب عز الدين القسام في غزة، في مستعمرة "ايلي سناي" وتعني في اللغة العبرية آلهة سيناء جددت مرة اخرى وبحدة اكبر السؤال المطروح في اسرائيل والولاياتالمتحدة ودول الغرب وحتى في الدول العربية وفلسطين، وهو: هل الرئيس ياسر عرفات الذي توصل الى اتفاق مع وزيرالخارجية الاسرائيلي شمعون بيريزعلى وقف إطلاق النار قادر فعلا على ان يفرض وقف النار؟ والسؤال نفسه يطرح بحدة اكبر وبخلط يمكن تفهم دوافعه بالصيغة التالية: هل عرفات قادر على وقف الانتفاضة؟ وإذا كان الرد ايجابًا، فإن سؤالاً تالياً يعقب، وهو: طالما اعلن عرفات وقف النار مرات عدة فلماذا لا يوقفها فعلياً؟ وإن كان الجواب سلباً فإن السؤال التالي يترتب عنه: لماذا لا يعترف بعجزه عن فرض وقف النار؟ والواقع انه ليس ثمة من يستطيع الرد على هذا السؤال، حتى عرفات نفسه! فالجواب الموجود بات ايضا جزءا من اللعبة، يختلف باختلاف السائل او باختلاف المجيب او الظرف. ولعل الاقرب الى الصحة هو ذلك الذي رد به وزير الخارجية الاسرائيلي"المعني الوحيد بوقف النار"، كما يصفونه في اسرائيل. وقد سئل بيريز هذا السؤال مرات عدة، خصوصا بعد لقائه الاخير مع عرفات. وقال: "نعم، عرفات قادر على وقف النار، لكنه بحاجة الى مساعدة". وأضاف يشرح ما عناه: "من يطلب من عرفات ان يوقف اطلاق النار هكذا بالضغط على زر مرة واحدة لا يدري ماذا يقول او انه معني باظهار عرفات عاجزا او مخادعا حتى يحقق اهدافا اخرى، فالمطالبة بوقف النار بنسبة 100 في المئة، مثل مطالبة وزير المواصلات بان يوقف حوادث الطرق. واذا كنا نريد فعلا وقف النار، فعلينا ان نكون واقعيين: أن نطلب منه أن يبذل جهدا بنسبة 100 في المئة. وان نفهم مصاعبه وضائقته. فتحت سلطة عرفات هناك 3,3 مليون فلسطيني يعيشون ضائقة حقيقية: بلا دعم،, فقر رهيب، قيود وحصار يمنعهم من التنقل، وضع امني ضاغط، كراهية مخيفة لنا. الامور لا تتم بهذه السهولة". ورفض بيريز ان يقول ما اذا كان مقتنعا بان عرفات معني او غير معني بوقف النار. واجاب ردا على هذا سؤال بهذا المعنى: "انا لا أقرأ النوايا.إنه عرفات يقول انه معني بوقف النار. ونحن من واجبنا ان نساعده على ذلك". وكلمة "نساعده" هذه مهمة للغاية في هذه المعادلة. ولم يستخدمها بيريز مصادفة، فهو اكثر العارفين بان اسرائيل، خصوصاً الجيش واليمين الحاكم، لا تساعد عرفات، بل تعمل ما في وسعها لكي تواصل المواجهات، لانها تريد واحدا من حلين: إما أن يستسلم عرفات، فيتحول شرطة لحماية جيش الاحتلال ومستوطنيه من حجارة الاطفال الفلسطينيين ورصاص الشبان وعمليات الفدائيين والانتحاريين الفلسطينيين، ويقبل برئاسة "جمهورية موز" تديرها اسرائيل. وإما ان يستمر في المواجهات، خصوصا العمليات ضد المدنيين، حتى يظهر ارهابيا او مشجعا وداعما للارهاب, فيتحول العالم ضده ويحقق لليمين الاسرائيلي رغبته في تصفية القضية الفلسطينية كما كان يحلم منذ عشرين سنة. واليمين الاسرائيلي بزعامة شارون مثابر على هذا النهج. وخلال الفترة الاخيرة منذ عودته الى الحكم في آذار مارس الماضي، ضاعف مرات عدة ممارساته العدوانية على الشعب الفلسطيني، وجعلها حربا عسكرية حقيقية بين اكبر واضخم واحدث جيش في الشرق الاوسط وبين 30-40 الف مقاتل فلسطيني يستخدمون الحجارة اكثر من الرصاص، واخطر سلاح لديهم قذائف الهاون القصيرة المدى، واكبر معاركهم العسكرية هي العمليات الانتحارية. ومع ذلك استعمل جيش الاحتلال الدبابات والطائرات المروحية المقاتلة والطائرات الحديثة والصواريخ والغازات الفتاكة وعمليات الاجتياح والهدم والتجريف والحصار. وخلال اللقاءات بين القيادات الامنية الاسرائيلية-الفلسطينية يقول الفلسطينيون لمفاوضيهم الاسرائيليين: "لم يبق سوى ان تستعملوا السلاح النووي. ولكن - رجاء - قبل ان تستخدموه ابلغونا. لعلنا نجد حلا ينقذكم من عقدة ذنب ترافقكم طوال عمركم مثل عقدة هيروشيما عند الاميركيين". فيرد عليهم الاسرائيليون: "لا تبالغوا. هناك الف سلاح وسلاح قبل اللجوء الى القنبلة النووية". ان مثابرة اليمين الاسرائيلي على محاربة الفلسطينيين شيء من "عودة الروح" التي بدأ يشعر بها منذ سقوط ايهود باراك. إذ إن اليمين صاحب حلم "ارض اسرائيل الكبرى" التي تمتد حدودها من البحر الى النهر اصيب بالاحباط الشديد من اتفاقات اوسلو لانها ادت الى تحطيم حلمه تماما، كونها وضعت النواة لكيان الدولة الفلسطينية. وتجدد امله في هذا الحلم بعد اغتيال رئيس الحكومة اسحق رابين 1995 وفوز بنيامين نتانياهو في انتخابات 1996. لكن نتانياهو واصل طريق اوسلو مرغماً، فانسحب من الخليل ووقع على اتفاق مزرعة نهر واي فلوريدا. وعندماعرقل المسيرة سقط هو ايضا ليفوز باراك برئاسة الحكومة وزعامة اليمين. وباراك هو الذي جدد حلم اليمين، اذ عرض على الفلسطينيين ما لم يعرضه رئيس حكومة من قبله: دولة فلسطينية على معظم الضفة الغربية وقطاع غزة تكون عاصمتها القدسالشرقية، لكن الفلسطينيين رفضوا العرض بسبب الخلاف على الوضع القانوني لباحة المسجد الاقصى، والخلاف على حل قضية اللاجئين. فكان تعقيب اليمين: "هذا هو الدليل على ان القيادة الفلسطينية لا تريد حلا سلميا، بل تريد استمرار الحرب حتى ابادة اسرائيل". فاسقط اليمينيون باراك، ليختاروا آرييل شارون. كان شعار شارون الاهم انه الوحيد القادر على تحقيق الامن والسلام. "الامن، لأن الفلسطينيين يعرفون من أنا" يقصد انه ذلك الجنرال الذي حاول تصفية المقاومة الفلسطينية منذ مطلع الخمسينات حتى غزو لبنان 1982، "والسلام لانني اعرف كيف اناور على تقسيم البلاد بيننا وبينهم". اما الفلسطينيون، وفي مقدمهم عرفات، وبتحالف لم يسبقه مثيل بين حركة "فتح" و"حماس" و"الجهاد" و"الجبهة الشعبية" و"الجبهة الديموقراطية"، فقد قرروا ان يكسروا نظرية شارون ويثبتوا له انه لن يحقق الامن الا بالتفاهم المباشر معهم. واللغة التي كانت متداولة في مقر السلطة الفلسطينية في ذلك الوقت هي :"سنمرغ انف شارون بالتراب". والصحيح، وعلى رغم الخسائر الفلسطينية الفادحة التي تحتاج الى سنوات حتى يتم ترميمها، ان الفلسطينيين نجحوا في هدفهم. فشارون لم يف بوعده لناخبيه. ووجد نفسه مضطرا للتفاوض مع عرفات، بواسطة وزير خارجيته وقادة جيشه، حتى يقبل عرفات وقف النار. وحاول ان يناور بين تحقيق هذا الهدف وارضاء اليمين الاسرائيلي المطالب بتنفيذ اشد العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين. وفي مراحل عدة اراد شارون فعلا ان يوقف الحرب، شرط تحقيق انجاز يفاخر به أمام ناخبيه. لكن التفجيرات في نيويورك وواشنطن غيرت المعادلة. وصار شارون معنيا بالدخول مع الولاياتالمتحدة والغرب في التحالف الدولي ضد الارهاب، ويضع عرفات في تصنيف الارهابي الذي تنبغي تصفيته. ووجدها فرصة تاريخية للتخلص من عرفات وسلطته والعودة الى الحلم القديم بارض اسرائيل الكبرى. هنا اصطدم شارون بالادارة الاميركية واوروبا وبوزير خارجيته وحلفائه في حزب العمل الذين راوا الصورة معكوسة: فهذه فرصة تاريخية لوقف النار وفرض حل دولي على عرفات، يستمد روح ما كان مطروحا في كامب ديفيد مع بعض التعديلات الطفيفة. وقد صعق شارون من هذا التوجه الدولي، خصوصا عندما اعلن الرئيس جورج بوش تأييده قيام دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل، وحين أكد بوش وجود مبادرة سلام اميركية تقوم على خطة كلينتون. ومن الواضح ان شارون يريد ان يعيق التقدم نحو هذه المبادرة بكل ما يسعه من جهد، وسيسعى الى استغلال اي طلقة رصاص فلسطينية ليرد عليها بما يجعل تهدئة الوضع مستحيلة. وظل عرفات، في المقابل، يناور طوال الوقت في اتجاهين شبيهين. فهو لم يقبل الحل الذي طرحه باراك، ولا يريد حلا شارونيا للقضية الفلسطينية. اذ انه يعرف ان شارون مهما تقدم باتجاهه لن يقترب كثيراً من عرض باراك. لذلك لجأ الى تصعيد الانتفاضة بحثا عن حل دولي يفرض على اسرائيل. وكان تعامله مع وقف النار ومع المبادرات الدولية يصب في هذا الاتجاه. وقد سخر كل امكانياته لهذا الغرض، وضمن بذلك استمرار التحالف مع كل التنظيمات الفلسطينية المستعدة للعمل والمقاومة. وكان الرئيس الفلسطيني واعيا تماما الى ان اقامة هذا التحالف امر سهل، لكن فكّه صعب جدا. وقد وفر له شارون اسباب الحفاظ على هذا التحالف بعملياته العسكرية البشعة، ووفر عليه تبعات تفكيك التحالف. أما الان وقد تغيرت الاوضاع الدولية فان عرفات يجدها فرصة لحشر شارون في الزاوية. فهو يعتقد بان التحالف الدولي لمكافحة الارهاب بحاجة ماسة الى وجود فلسطيني. ومن خلال انضمامه الى التحالف مع غالبية الدول العربية سيحظى بضغط دولي على شارون. وهو يحاول الان تجنيد حلفائه الجدد "حماس" و"الجهاد" لهذه المعركة. وقد أبلغهما صراحة بان التزامهما الموقف الفلسطيني الرسمي سيخرجهما من دائرة التنظيمات الارهابية التي يسعى التحالف الى مكافحتها. ومن شانه ان يحقق مكاسب للقضية الفلسطينية برمتها. وفي الوقت الحاضر لا يطرح عرفات على "حماس" و"الجهاد" بديل التصفية، كما يطلب شارون، لانهما سلاح مهم وحيوي في معركته المقبلة ضد مخطط اليمين الاسرائيلي. لكنه يبقي هذا الخيار ماثلا امامه وامامهما حتى إذا اضطرته الأوضاع، بسبب العمليات الانتحارية ضد المدنيين اليهود، أن يطلب منهما وقف العمليات الانتحارية داخل اسرائيل. ولذلك يرفض عرفات الحديث عن انهاء الانتفاضة، ويعتبر ذلك طرحا خاطئا. ويتحدث - بدلاً من ذلك - عن وقف نار موسع. ويريد من "حماس" و"الجهاد" الاستعداد لوقف النار الشامل اذا شعر بجدية الطروحات الدولية لنصرة القضية الفلسطينية. وهي من دون شك مناورة صعبة للغاية. يوجد فيها كثير من اللاعبين، ليسوا جميعا تحت سيطرته. لكنه لا يريد ان يخسر فيها هذه المرة. لذلك مضى يستنكر العملية الانتحارية في مستوطنة "ايلي سناي" بهذه الحدة، وأقدم على تنفيذ حملة اعتقالات