معركة انتخابات رئيس الحكومة المقبل في اسرائيل، ستجرى في 6 شباط فبراير المقبل هي الاقصر في تاريخ الانتخابات الاسرائيلية. وفي الوقت نفسه، الاكثر تعقيداً ومصيرية واخطاراً. فقد اتعبت الاسرائيليين وانهكتهم وقلبت الموازين السياسية تماماً. فجعلت الجنرال ايهود باراك، صاحب اكبر عدد من الاوسمة العسكرية، مرشحاً للهزيمة النكراء. والجنرال ارييل شارون، صاحب الفشل الحربي الاسرائيلي الاكبر حرب لبنان ومجازرها مرشحاً للفوز بأعلى نسبة أصوات بين رؤساء الحكومات. معركة يعرف الجميع ان على نتائجها يتوقف مستقبل اسرائيل في العقد المقبل على الاقل، فإما تكون وجهتها للحرب واما السلام، للديموقراطية أو الدكتاتورية، المساواة أو تعميق العنصرية، ومع ذلك فإن الجمهور يتردد في الوصول الى صناديق الاقتراع، ويعلن عبر استطلاعات الرأي ان اكثر من ثلث الناخبين ينوون المقاطعة أو وضع أوراق بيضاء، كأنهم تنازلوا عن الحق والواجب في تقرير مصيرهم. استطلاعات الرأي، التي تعتبر احد المقاييس الاساسية لاتجاه الرياح في هذه المعركة، اشارت حتى قبل اسبوعين، الى انتصار ساحق لمرشح اليمين واليمين المتطرف والمستوطنين في الاراضي الفلسطينية المحتلة، ارييل شارون، بفارق 20 نقطة على رئيس الوزراء الحالي ايهود باراك. ثم هبط فارق النقاط الى 14، فاستبشر باراك خيراً وبدأ يستعيد أنفاسه في المعركة. فارتفع الفارق مرة اخرى، لمصلحة شارون، ليصل الى 20 نقطة. ولكن وبشكل مفاجئ، جرت في الاسبوع الماضي انتخابات تجريبية في عشر مدارس ثانوية وفي جامعة تل ابيب، اعطت كلها الفوز لباراك باستثناء واحدة، وبفارق 10 - 26 نقطة. والمدرسة الاستثنائية فاز بها شارون بفارق نصف نقطة. وبين المدارس التي منحت الفوز لباراك بفارق 17 نقطة، مدرسة "بليخ" وهي مشهورة بانتخاباتها. ففي سنة 1977 تنبأت بفوز ليكود. وفي سنة 1992 تنبأت بفوز اسحق رابين وفي 1999 تنبأت بفوز باراك. واصبحت، هي ايضا، واحدة من المقاييس لاتجاه الرياح. وبالطبع استمد باراك التشجيع من هذه النتائج، واستعد للانطلاقة الاخيرة في المعركة لمحو الفارق وهزيمة شارون. ولو ان معسكر اليمين يعتبرها انطلاقة النزع الاخير لحكم باراك، الذي لن تقوم له قائمة من بعدها. إلا ان اليمين واثق تماماً من انتصاره بقيادة شارون. وقد بدأ قادته يفصلون البدلات الوزارية الفاخرة. فهم يرون ان الشارع الاسرائيلي غاضب جداً على باراك ويريد اسقاطه. فأثناء حكمه انعدم الامن الشخصي للاسرائيليين الذين اعتبروا ان باراك خيب أملهم ولذلك قرروا التصويت لشارون، واكدوا ان السبب الرئيسي لهذه الخيبة 41 في المئة يتعلق بانعدام الامن. وهناك 19 في المئة قرروا التصويت لشارون ضد باراك، بسبب تنازلاته الهائلة للفلسطينيين واستمرار التفاوض معهم تحت ظل تبادل اطلاق النار. الأمن والخطر الأخضر وينتظر اليمين اليوم تماماً كما كان الحال سنة 1996 ان يتزعزع الامن الشخصي للاسرائيليين اكثر بواسطة تفجير عبوات ناسفة وقتل اسرائيليين مدنيين او تنفيذ عمليات انتحارية داخل مدن الخط الاخضر اليهودية. فشمعون بيريز، يعتبر انه خسر المعركة الانتخابية لمصلحة بنيامين نتانياهو سنة 1996 فقط بسبب العمليات الانتحارية التي قامت بها خلايا "حماس" في تل ابيب والقدس. وهو اتهم يومها اليمين اليهودي و"حماس" بأنهما يخدمان الهدف نفسه، أي تصفية عملية السلام. وينظر باراك اليوم الى الاحداث المتكررة وهو يرى الطريق الى الهزيمة، لكنه يغمض عينيه ويعلن انه ما زال واثقا من تحقيق النصر، مستنداً الى ثقته بنفسه اولا، وهي ثقة زائدة كثيراً لدرجة انها اصبحت عدوه الاول. ثم يعتمد على منطق الأمور، وهو تعبير صارخ عن السذاجة، كأن يقول في نفسه: "ليس من المعقول ان يتدهور الشعب في اسرائيل لدرجة اختيار شارون رئيساً". ويتجاهل باراك دوره في كل ذلك بالطبع. يتناسى مسؤوليته عن انفجار الانتفاضة، عندما سمح لزعيم المعارضة شارون ان يقوم بزيارته الاستفزازية للحرم القدسي الشريف. وحتى بعد ذلك، لم يتعلم من اسلافه فوقع في اخطائهم وقمع الانتفاضة بوسائل لم يسبق استخدامها من قبل، مثل قصف المدن الفلسطينية بالطائرات ودك البيوت والمقرات الرسمية بالمدافع الثقيلة وبالدبابات وبالصواريخ المتوسطة. وحتى فلسطينيو 1948 المواطنون في الدولة العبرية الذين هبوا للتضامن مع اشقائهم ضحايا مذبحة الاقصى، قامت شرطته بقمعهم دمويا وقتلت 13 شاباً منهم خلال ثلاثة ايام. هذه الممارسات جعلت فلسطيني 48 والكثير من قوى السلام الراديكالية في المجتمع اليهودي تفقد كل ثقة بباراك، على رغم تقدمه بأفكار جريئة في عملية السلام. فانفضوا عنه وقرروا المقاطعة. وحتى رفاق باراك في قيادة حزب العمل انفضوا عنه ، كل لحساباته وغالبيتها نابعة من المرارة الشخصية، فلم يتجندوا للمعركة الى جانبه. بل انضموا الى الحملة لتغييره وحمله على الانسحاب من المعركة وترشيح شمعون بيريز مكانه. انقضاض اليمين أما معسكر اليمين الذي خرج من معركة الانتخابات في سنة 1999 محطما ومهشما، فوجد في هذا الوضع فرصته للانقضاض على الشارع الاسرائيلي والعودة الى الحكم. يستغل كل ثغرة، ويستفيد من مقاطة العرب للانتخابات، لانهم يشكلون نسبة 12 في المئة من الناخبين. ويستفيد من القنوط في حزب العمل ومعسكر اليسار. ومن استمرار الانتفاضة وحتى من العمليات الانتحارية ومن كل عملية قتل للاسرائيليين حوالي 50 يهودياً قتلوا خلال الانتفاضة، بينهم مدنيون كثيرون. ويستفيد حتى من استمرار المفاوضات، جنباً الى جنب مع استمرار اطلاق النار. فما الذي بقي لباراك ان يفعله؟ لقد اصبح حديثه عن برنامج السلام ومفاوضات السلام مثاراً للسخرية. وبدت انجازاته الاقتصادية الكبيرة جداً. على الهامش توفير 130 الف فرصة عمل وخفض البطالة بنسبة 1.5 في المئة، وزيادة الاستثمارات الاجنبية بقيمة 300 مليون دولار وزيادة موازنة التعليم بنسبة 40 في المئة ولم يعد بمقدوره إبراز الثورة المدنية، اذ راح رفاقه وحلفاؤه من المتدينين المعتدلين يهددون بتركه. ولم يبق لباراك سوى سلاح واحد يحارب به شارون، هو شارون نفسه: تاريخه الدموي وتصريحاته الحربية. "شارون أدخل الجيش الى لبنان وباراك اخرجه"، "شارون جرنا الى حرب دامية سقط فيها 1000 شاب اسرائيلي، وباراك حقن الدماء"، "شارون يعني الحرب... الخ". وعلى رغم التعليمات الصارمة للطاقم الاميركي الذي يقود حملة شارون الانتخابية برئاسة خبير الانتخابات آرثر فنكلشتاين، إلا انه لم يفلح في "ضبط لسانه". وتورط في تصريحات تناقض شعار حملته الانتخابية القائل: "فقط شارون يجلب السلام". فدعا الى وقف المفاوضات مع الفلسطينيين فوراً. ومعتبر ان السلام معهم غير ممكن وغير واقعي في هذه المرحلة، واكثر ما يمكن تحقيقه معهم هو "اتفاق اللا حرب". وقال عن الرئيس ياسر عرفات، انه "كذاب وقاتل" وأعلن انه لن يصافحه اذا انتخب رئيسا للحكومة، حتى لو ادار مفاوضات معه. واعلن انه لا حاجة الى مفاوضات سلام مع سورية. وعندما سألته صحيفة دينية متشددة عن قصده في التصريح بأن للسلام ثمناً مؤلماً لا بد من دفعه، فأجاب: "اقصد انه يؤلمني بأننا لا نستطيع اعادة احتلال نابلس واريحا". وزاد الطين بلة رفاقه الاخرون في قيادة اليمين، رحبعام زئيفي، المرشح لمنصب وزير الذي اعلن عن مهمة وطنية حيوية لقتل محمد دحلان، رئيس جهاز الامن الوقائي الفلسطيني في قطاع غزة، وافيغدور فيلدمان، وهو ايضا مرشح لمنصب وزير في حكومة شارون، فهدد باحتلال بيت جالا وبضرب طهران وسد اسوان بالصواريخ البعيدة المدى. لقد حمل باراك هذه التصريحات وراح يخيف بها الناس، مبينا ان شارون لا يريد سوى الحرب. ووصوله الى سلم القيادة في اسرائيل ليس سوى مغامرة عسكرية خطيرة تهدد بتفجير الوضع من جديد، وتجر الى حرب شاملة. هذا هو سلاح باراك الوحيد تقريبا، في المعركة الانتخابية، خصوصا بعدما لم تعد المفاوضات السلمية المتعثرة سلاحا. إذ صارت سلاحا ضد باراك بالنسبة الى الكثيرين. وقد طلب الخبير الاميركي فنكلشتاين من شارون وصحبه ان يمتنعوا عن الكلام في هذه المرحلة. والسؤال: الى أي مدى سينفع هذا السلاح في الاسبوع الاخير من المعركة؟ وإذا كان نافعاً فإلى أي مدى؟ وهل هو قادر على محو الفارق الكبير بين باراك وشارون؟ إنه لأمر مشكوك فيه. والقناعة السائدة في اسرائيل هي ان أعجوبة فقط يمكن ان تنقذ باراك