«الموارد» تطلق خدمة «حماية أجور» العمالة المنزليَّة في يوليو    أمير تبوك: خدمة الحجاج والزائرين شرف عظيم ومسؤولية كبيرة    تداولات ب 7 مليارات للأسهم.. المؤشر يقفز 43 نقطة    المملكة رائدة الرقمنة والذكاء الاصطناعي    «الممر الشرفي» يُشعل ديربي العاصمة    برشلونة يرتقي لوصافة الدوري الإسباني بهدفين في شباك سوسيداد    تعادل مثير لأستون فيلا مع ليفربول يقربه من دوري أبطال أوروبا    التجديد إلكترونياً لجوازات المواطنين الصالحة حتى (6) أشهر قبل العملية    سمو أمير منطقة الباحة يناقش في جلسته الأسبوعية المشروعات التنموية والخدمات المقدمة    أمير الباحة يستقبل مدير وأعضاء مكتب رواد كشافة بعد إعادة تشكيله    تغطية أرضيات مشعر منى بالسيراميك.    نائب أمير الرياض يرعى احتفال معهد الإدارة العامة بالخريج والوظيفة ال 28    قلق أممي إزاء عمليات التهجير القسري والإخلاء من غزة    أبل تطور النسخ الصوتي بالذكاء الاصطناعي    يدخل"غينيس" للمرة الثانية بالقفز من طائرة    الكويت في الصدارة مجدداً    سرابُ النصرِ وشبحُ الهزيمة    وزير الخارجية يصل إلى المنامة للمشاركة في الاجتماع التحضيري ل «قمّة البحرين»    أمير المنطقة الشرقية في ديوانية الكتاب    نائب أمير مكة: "لاحج بلا تصريح" وستطبق الأنظمة بكل حزم    الرياض ولندن.. شراكة وابتكارات    في لقاء مؤجل من الجولة 34 من الدوري الإنجليزي.. مانشستر سيتي يواجه توتنهام لاستعادة الصدارة    ضمن الجولة 32 من دوري" يلو".. العروبة في اختبار البكيرية.. والعربي يواجه الترجي    فابريزيو رومانو يؤكد: 3صفقات عالمية على أعتاب دوري روشن السعودي    بطلتنا «هتان السيف».. نحتاج أكثر من kick off    في الإعادة إفادة..    المملكة تتصدر اكتتابات الشرق الأوسط المنفذة والمتوقعة في 2024    تزايد الهجمات السيبرانية في ألمانيا والخسائر 1ر16 مليار يورو    وزير التعليم يزور مدرسة معلمة متوفاة    يستيقظ ويخرج من التابوت" قبل دفنه"    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة حتى السبت المقبل    اللجنة الوزارية للسلامة المرورية تنظم ورشة "تحسين نظم بيانات حركة المرور على الطرق"    الداوود يتفقد نطاق بلدية العتيبية الفرعية ويطّلع على أعمال التحسين ومعالجة التشوه البصري    الرزنامة الدراسية !    ماهية الظن    فخامة الزي السعودي    استعراض الفرص الواعدة لصُناع الأفلام    الكويت.. العملاق النائم ونمور الخليج    آنية لا تُكسر    تركي السديري .. ذكرى إنسانية    «Mbc Talent» تحصد جوائز أفلام السعودية وتقدّم المنح    الصحة النباتية    الصحة.. نعمة نغفل عن شكرها    دور الوقف في التنمية المستدامة    الماء البارد    إزالة انسدادات شريانية بتقنية "القلب النابض"    «سعود الطبية» تنهي معاناة ثلاثينية من ورم نادر    حكاية التطّعيم ضد الحصبة    18 مرفقاً صحياً لخدمة الحجاج في المدينة    ما رسالة أمير حائل لوزير الصحة؟    أمير المدينة يرعى تخريج طلاب جامعة طيبة.. ويتفقد مركز استقبال الحجاج بالهجرة    محافظ الخرج يستقبل رئيس جامعة سطام    فهد بن سلطان: خدمة الحجاج والزائرين شرف عظيم ومسؤولية كبيرة    الدكتوراه الفخرية العيسى    النزوح الفلسطيني يرتفع مع توغل إسرائيل في رفح    القنصل العام في لوس أنجلوس والملحق الثقافي في أمريكا يزوران الطلبة المشاركين في آيسف    أمير تبوك يرعى حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة فهد بن سلطان    استقبل محافظ دومة الجندل.. أمير الجوف يشيد بجهود الأجهزة الأمنية والعسكرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قرنق ل "الوسط": الانفصال اذا تعذرت الوحدة بمفاهيم جديدة للحكم وانهاء الصراع يتطلب انهاء الهيمنة وجنوب افريقيا نموذج يحتذى به
نشر في الحياة يوم 13 - 06 - 1994

للمرة الأولى منذ انعقاد "مجلس التحرير الوطني"، وهو هيئة منبثقة من المؤتمر الوطني التابع لپ"الحركة الشعبية لتحرير السودان"، في آذار مارس الماضي، تحدث العقيد جون قرنق زعيم الحركة الى "الوسط"، عن حيثيات انعقاد "مجلس التحرير" وأهدافه، موضحا انه جاء تجاوبا مع رياح التغيير والدعوة الى الديموقراطية.
وأكد ان اعلان قيام "السودان الجديد" ليس مقدمة للانفصال وانما مقدمة لبناء سودان خال من سلبيات الماضي، من الهيمنة والفرز الديني. وكشف اختيار يوسف كوة رئيسا للمؤتمر، وهو قائد نوبي مسلم من غرب السودان. واشار الى تمرد في صفوف الجيش الحكومي. وشدد على انه مع "سودان موحد يتطلب قيامه انهاء الهيمنة العرقية والدينية"، وان حركته باقية في "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارضة، وان الصراع في صفوفه لا يخدم الا النظام في الخرطوم، لذلك "فان الحركة مستعدة للمساهمة في توحيد صفوفه.
وهنا نص الحوار:
عقد مجلس التحرير الوطني في 12 آذار الماضي دورته الأولى داخل المناطق التي اطلقتهم عليها تسمية "السودان الجديد"، ما طبيعية هذا المجلس؟ وما هي الاهداف التي حتمت انعقاد دورته الأولى؟ وما المقصود بپ"السودان الجديد"؟
- المجلس الوطني هيئة منبثقة من المؤتمر الوطني للحركة. ومؤتمر آذار الماضي أول مؤتمر من نوعه للحركة. اما أسباب انعقاد مؤتمر مجلس التحرير الوطني فثلاثة: اثنان منها أساسيان والثالث ظرفي:
السبب الأول يتمثل في تجاوب الحركة الشعبية مع رياح التغيير التي بدأت تغزو العالم داعية الى اقامة الديموقراطية وتوسيع المشاركة الجماهيرية في عملية صنع القرار السياسي. وعلى رغم ظروف الحرب في جنوب السودان آثرنا عدم التغني بالشعار فحسب وانما مجاراة الواقع الجديد.
السبب الثاني هو تحركنا نحو تطبيق مقررات مؤتمر توريت ايلول 1991 التي اشار ابرزها الى ضرورة الفصل بين العمل العسكري والاداري في المناطق المحررة الخاضعة لسيطرة الحركة الشعبية في جنوب السودان.
السبب الظرفي هو انهاء التشويش الذي اخذت تثيره العناصر المنشقة عن الحركة. اذ نتج من ظاهرة الانشقاق شبه اعتقاد بأن الحركة الشعبية لا تتمتع بالتأييد الشعبي على مستوى قواعدها. وقد تقرر ان نضع حداً لهذا التشويش بالعودة الى القواعد الشعبية، من خلال المؤتمر. واختار المؤتمر المجلس الوطني حتى يصبح الهيئة التشريعية والرقابية العليا في مناطقنا في غياب المؤتمر الذي ينعقد مرة واحد كل خمس سنوات. أما اعلان السودان الجديد ومؤسساته العاملة فهو تطوير للمفاهيم والمؤسسات التي تقررت في مؤتمر توريت في شأن طريقة حكم الأراضي المحررة في جنوب السودان.
الحكومة السودانية وقادة في المعارضة يرون في قيام "السودان الجديد" وبدء تفعيل مؤسساته مقدمة للانفصال، فما هو رأيكم؟
- ليس مستغرباً ان تعلن الحكومة السودانية ذلك اذ من اهدافها التشويش على الحركة الشعبية أولاً. ولا تريد الحكومة، ثانياً، ان تعترف، ويعرف العالم، انها لا تسيطر على اجزاء كبيرة من جنوب السودان تسميها الحركة "السودان الجديد"، على رغم انهم يجلسون معنا للتفاوض في طريقة تنظيم جهود الاغاثة في هذه المناطق. نحن بحكم الواقع نسيطر على أجزاء كبرى من السودان تمتد من الاستوائية جنوباً حتى جبال النوبة شمالاً. وعلى هذه الأراضي سنقيم السلطة السودانية الجديدة التي ندعو لها، رضي الفريق البشير ام رفض وقبل الترابي ام تجاهل ذلك. وأود الاشارة الى ان تاريخ انعقاد المؤتمر الأول للحركة تصادف مع التاريخ نفسه الذي حدده الفريق البشير للقضاء على "التمرد"، كما قال في نهاية رمضان الماضي. ونحن اخترنا هذا التوقيت لعقد مؤتمرنا امعاناً منا في تحدي الحكومة السودانية ولثقتنا بأنفسنا وقضيتنا.
مع هذا استغرب ما قاله بعض قيادات المعارضة السودانية لأنني افترض، كما يقتضي المنطق، ان أي معارض لنظام البشير يفترض فيه ان يفرح عندما ينجح فصيل معارض حليف له في اقامة سلطة مدنية فعلية على ثلث مساحة السودان، كمقدمة لبناء سودان جديد خال من سلبيات السودان القديم. أوليس هذا الهدف واحداً من الفقرات التي يشير اليها ميثاق التجمع الوطني الديموقراطي ويسعى الى تحقيقه؟
اما السلطة العليا التي انشأناها فاسمها المجلس الوطني لا المجلس الجنوبي. واخترنا المناضل يوسف كوة، وهو مسلم من جبال النوبة، لرئاسة المؤتمر. ولهذا الاختيار دلالاته المفترض ألا تغيب عن الجميع، اعداء وحلفاء وأصدقاء.
التمثيل… والمواقع
ما هي تركيبة المجلس الوطني وكيف توزعت خريطة اعضائه؟
- يضم المجلس الوطني، الى جانب الاعضاء الجنوبيين، عدداً من ممثلي جبال النوبة وهم 19 عضواً. وتمثلت منطقة الانقسنا بپ4 أعضاء، وقبائل المسيرية بپ4 أعضاء أيضاً. وجميع الممثلين انتخبهم ممثلو مناطقهم في المؤتمر الوطني. وقد شارك ممثلو هذه المناطق في المؤتمر الوطني بعد انتخابهم من قبل قواعدهم الشعبية.
أول قرارات المجلس الوطني كانت اعلان قيام السودان الجديد المكون في الوقت الحاضر من أقاليم بحر الغزال واقليم الاستوائية وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان ومنطقة اعالي النيل، ما يعني ان الباب يبقى مفتوحاً لانضمام مناطق أخرى. وكان من الأفضل ان يشارك هذا البعض المعارض في هذه السلطة الجديدة عوضاً عن ممارسة التشكيك واطلاق التصريحات.
المستغرب انك تتحدث عن السيطرة على ثلث مساحة السودان في الوقت الذي تعلن الحكومة السودانية انها حققت انتصارات عسكرية انهت وجود قواتك في الجنوب باستثناء مواتقع حدودية قليلة، مثل نيمولي وكاجوكاجي التي تقول الخرطوم انها ستقع في قبضة قواتها قريباً.
- نظام البشير والترابي يستطيع قول ما يشاء، لكن الواقع على الأرض مختلف، فالحركة الشعبية موجودة في جبال النوبة، وهي قلب السودان وتوجد في مناطق المسيرية وبحر الغزال بعيداً عن جنوب السودان. كما تبسط هيمنتها على شرق ولاية الاستوائية مع سيطرتها الكاملة على الحدود السودانية مع كينيا وأوغندا، وجزء كبير من الحدود مع اثيوبيا. كما انها موجودة في غرب ولاية الاستوائية وتسيطر سيطرة تامة على كل الحدود مع اوغندا وزائير وافريقيا الوسطى.
ولأنني احترم عقل القارئ فإني اخاطبه بلغة الأرقام والأسماء والأيام، وهي معلومات مستمدة من سجلات الجيش السوداني نفسه، لأن الحركة الشعبية موجودة في مدينة جوبا الجنوبية، كما في صفوف المقاتلين. وسأتناول في ردي محوري كاجوكاجي ونيمولي لأنك اشرت اليهما.
الحملة على نيمولي بدأت في تموز يوليو 1993 متجهة في الضفة الشرقية لولاية الاستوائية على محورين: قوات المحور الأول اتجهت نحو جبال سندرو باسم قوات "سيوف السلام"، لاعتقاد البشير بأن انطلاق هذه القوات يتزامن مع اجتماعات لجنة "ايفاد" المنظمة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف وتضم اوغندا وكينيا واريتريا واثيوبيا وجيبوتي والسودان لتحقيق السلام. اما قوات المحور الثاني فأطلق عليها اسم قوات "الوعد الحق" واتخذت طريقاً خارجياً. وحتى نهاية كانون الأول ديسمبر 1993 لم تقطع المجموعة الأولى اكثر من 40 ميلاً، أي حوالي 7 أميال في الشهر. وتقول بيانات قيادة الجيش السوداني ان عدد القتلى بلغ حتى نهاية كانون الأول 1993 1600 قتيل، ناهيك عن الجرحى، ما أدى الى انخفاض الروح المعنوية بين الضباط والجنود، خصوصاً ازاء عجز الجيش السوداني عن ترحيل الجرحى من الجنود وضباط الصف الى جوبا او اسعافهم في موقع العمليات.
ازاء ضعف قوات "سيوف السلام" أمرت الحكومة السودانية بتوحيد القوتين تحت اسم جديد هو قوات "سيوف الحق". وفي 13 نيسان ابريل 1994 زار ابراهيم شمس الدين، يرافقه قائد العمليات في جوبا، منطقة تجمع القوتين لرفع الروح المعنوية للجنود. وكنا على علم سابق بهذه الزيارة فقصفت قوات الجيش الشعبي طائرة الهليكوبتر، حاملة الوفد الرسمي، لحظة هبوطها ما أدى الى اصابة قائد عملية "سيوف السلام" العميد محمد عبدالقادر نصرالدين، ونقل لاحقاً الى جوبا. وقتل الرائد ابو عبيدة احمد وكاتبه العريف في الجيش، والرقيب عبدالقادر علي محمد، وجرح 15. اما العميد ابراهيم شمس الدين فهرب الى جوبا عبر الطريق البحرية تاركاً خلفه قيادة القوتين للعميد الركن مصطفى سرداب. ومنذ تلك الحادثة لم تتقدم تلك القوة اكثر من أميال معدودة.
وفي الضفة الغربية بدأت حملة عسكرية قام بها الجيش السوداني تحت اسم "ابطال الادغال" مطلع العام الحالي. وبلغ القتال أشده مع قواتنا في شهري نيسان ابريل وايار مايو الماضيين وخسر الجيش 238 قتيلاً و483 جريحاً. كل هذه المعلومات العسكرية المثيرة يعتم عليها النظام السوداني الذي يحظر نشر معلومات أكثر خطورة، منها ان افراد الجيش الذين راحوا ضحية الملاريا والديزنتاريا الوبائية اكثر بكثير من عدد الذين ماتوا في مواجهات عسكرية مع قواتنا. كل هذا نتيجة للتخطيط الذي يقوم به المغامرون والهواة حالياً في الجيش السوداني وفي طليعتهم ابراهيم شمس الدين والفاتح عروة. انا اعرف الجيش السوداني عن خبرة ودراية، فقد خدمت سنوات طويلة في صفوفه، ففيه ضباط عظام أصحاب خبرة ودراية، لكن دراويش الجبهة وميليشيات الدفاع الشعبي يبعثون الفوضى وسوء التخطيط ما يؤدي الى استشهاد مئات الجنود وصفوف الضباط النظاميين.
وبودي ان اكشف اموراً أخرى خطيرة تحدث في ساحة المواجهة في جنوب السودان، منها ان قوات الحركة عثرت على قتيل يدعى حسن علي احمد. قضى بداء الملاريا، وتوقفت طويلاً لدى تفحص اوراقه، فهو ينتمي الى الكتيبة 261 الحرس الجمهوري. فالجيش الذي يزج في ساحة المعركة بقوات الحرس الجمهوري وقوات المدفعية والبحرية وقوات المهندسين لا بد ان يكون في ازمة. كما اكتشفنا تفشي الاصابة بالأوبئة المعدية واصابة قادة ثلاث من الكتائب السودانية المقاتلة هم المقدم عمران يحيى من الكتيبة 24 والمقدم ميرغني بابو والمقدم معاوية محمد عبدالقادر الكتيبة 129 ما حتم نقلهم الى جوبا نزولاً عند اوامر الطبيب. ولا شك في ان مصير هذا الطبيب سيكون كمصير زميله الطبيب الرائد ابراهيم عثمان الذي استدعي للتحقيق معه لأنه شكا من سوء الأحوال الصحية، فاستدعته لجنة الطوارئ في جوبا للتحقيق معه. وهي لجنة خاضعة للجبهة القومية الاسلامية.
"الوضع سيء"
المعلومات والوقائع والأرقام التي تذكرها لا تتفق والواقع الذي تتحدث عنه الحكومة السودانية خلال الفترة نفسها التي تذكر. فقد كنت في الخرطوم خلال هذه الفترة ولم اسمع بهذه الظروف الصحية السيئة في صفوف الجيش المقاتل في الجنوب؟
- عندما مرض الفريق البشير وأصيب بداء في ساقه اكثر من التردد على "بلاد الكفار" في لندن لتلقي العلاج الذي ينكره على قواته وضباطه في جنوب السودان. ولا يمكن قائد الجيش السوداني ان لا يعلم بسوء الأوضاع على الجبهة، او لا يطلع على رسائل واردة من منطقة العمليات اذ جاء في واحدة منها: "الوضع سيء للغاية لانعدام الأدوية"، او رسالة قوات "ابطال الادغال" القائلة "ما زالت حالات المرض متفشية بين الجنود وضباط الصف، والموقف سيء للغاية". والمثير للغرابة ان تاريخ هذه الرسائل يتوافق مع زيارة البشير لنيروبي قبيل انعقاد مفاوضات "ايغاد" آذار 1994 حيث أعلن انه يتوقع سقوط كاجوكاجي ونيمولي، ما يكشف انه قد ترك السياسة وشؤون الحرب للترابي ورفاقه. كما تخلى عن أمور الحرب وعهد بها الى مغامرين وهواة في ميليشيات الجبهة التي تستهين بالجيش، ما أدى الى بروز ظاهرة التمرد في الجيش، اذ تمردت الكتيبة 187 ورفضت مواصلة القتال. وتمردت الكتيبة 431 ورفضت التقدم الى الأمام. كما ترك المعركة عدد من الضباط النظاميين منهم العقيد صبري قائد الكتيبة 126 الذي ترك موقعه في 20 ايار مايو الماضي.
بوصفك واحداً من أبرز ضباط الجيش السوداني، ألا تشعر بالحزن أمام الواقع الذي تذكره؟ وما الذي يدفعك الى مواصلة قتال زملاء لك يعانون ما يعانون؟
- اؤكد انني لست سعيداً لمعاناة رفاق السلاح. ومنذ حملت السلاح بقيت أجاهد لتحقيق السلام مع الجادين في طلب السلم والتعايش في وطن سوداني يقبل بالتعدد والتنوع. يشهد على هذا اعلان كوكادام عام 1986، ومبادرة السلام السودانية مع مولانا محمد عثمان الميرغني، وترحيبنا باتفاق نيسان ابريل 1989. وجاء هذا النظام وكان همه منذ البداية اقتسام السلطة مع الحركة الشعبية بدلاً من تحقيق سلام عادل وشامل ودائم. وهذا لا يتم الا بمشاركة كل القوى السياسية والاجتماعية وبموافقة الشعب عبر استفتاء حر تحت رقابة هيئة محايدة. ولو كانت الحركة راغبة في اقتسام السلطة لفعلت ذلك مع نميري، وقد عرضها علينا، او مع الصادق المهدي، وقد عرضها علينا أيضاً. ولا أدري لماذا يظن هؤلاء اننا نرغب في اقتسام السلطة المسروقة من الشعب مع نظام يشارف على نهايته!
أنا اشعر بحزن عميق ازاء فناء اعداد كبرى من الشباب السوداني في معارك خاسرة، كما أشعر بحزن مماثل لاستشهاد اي مناضل في صفوف الحركة الشعبية، او اي طفل يحترق من جراء قصف عشوائي او امرأة تقضي جوعاً ومرضاً. فأنا لست كهؤلاء الذين يعتقدون بأن المواطن النوبي او الجنوبي عقبة في طريق تنفيذ مشروع الدولة الدينية في السودان. قد لا اعرف كل ضحايا الجيش السوداني مع هذا حزني لا يقل ولا يهدأ. ومن هؤلاء الضحايا النقيب هاشم ابو كدوك فهو بمثابة الأبن لي بحكم علاقتي بأسرته ووالده الضابط المرموق اللواء توفيق ابو كدوك.
تتحدث بحزن عن ضحايا الحرب من الجيش والحركة كما تتحدث عن السلام، وقد ذكر الفريق البشير، في سياق تقويمه جهود لجنة "ايغاد" انك العقبة الكبرى في سبيل السلام، والاتفاق مع رياك موشار اسهل من الاتفاق معك، فما رأيك؟
- هذه الاحاديث لا تصدر عن رجل يسعى الى السلام الذي تبقى اولى شروطه تهيئة الجو المناسب له. وإن كان البشير يؤمن بما يقول عني وعن مشار فلماذا يضيع وقته معنا؟ ولماذا لم يتحقق السلام عبر لقاءات الحكومة السودانية مع مشار في فرانكفورت وامستردام ونيروبي وأبوجا؟ ان البشير يشارك في محادثات السلام مع سبق الاصرار على سوء النية. ولعلك تعرفين ما حدث في مطار شقدم عندما قصفت طائرة "ميغ 23" تابعة للجيش السوداني المطار في اللحظة التي كان وفدنا الى المفاوضات يستعد للاقلاع في طائرة خاصة بعث بها الوسطاء. وكان خبر تلك الطائرة تسرب الى وفد البشير في المفاوضات.
اصرار على التفاوض
هل يعني هذا انكم لا تعلقون آمالاً على مفاوضات السلام التي ترعاها لجنة "ايغاد"؟
- ان المؤتمر الوطني للحركة اكد في قراره الرقم 12 ان الحركة الشعبية ستواصل السعي الى حل مشكلة الصراع في السودان وليس قضية الجنوب بالتفاوض مع النظام القائم في الخرطوم، أياً كان ذلك النظام. وموقفنا من السلام ثابت كما تشهد بذلك سوابق الماضي والحاضر. وينص قرار المؤتمر الوطني على ان جميع القوى السياسية في السودان يجب ان تدرك ان انهاء الصراع في ظل سودان موحد لن يتحقق الا بالقضاء على سلبيات السودان القديم وعلى رأسها الهيمنة العرقية والدينية والسياسية والاقتصادية. والبشير لا يبغي في محادثات السلام غير كسب الوقت حتى تقوى شوكة النظام ليفرض اجندته التي تمثل اقبح اشكال الهيمنة. مع هذا سنواصل التفاوض حتى نكشف للعالم حقيقة النظام السوداني.
من المضحك ان البشير الذي يصفني بالعقبة الأولى في طريق السلام، يرسل اليّ رسالة خاصة عبر سفيره في نيروبي كي اشارك في مؤتمر جوبا للسلام. وقد رددت عليه اني اقبل دعوته شريطة ان يسمح للجيش الشعبي بارسال وفد يتكون من لواء لتوفير الحماية للوفد الذي سأقوده الى لقاء جوبا. وكما ترين نحن نتعامل مع نظام مغرور لا تتسم تصرفاته بالجدية. فهو يعبث بقضايا الحرب والسلام في مناورات لا يستهدف منها سوى كسب الوقت. علماً بأن الوقت ليس في مصلحة معزول في الداخل والخارج. كما لا يستهدف من استمرار القتال سوى تحقيق انتصارات وهمية باحتلال مدن صغيرة يتلهى باخبارها الناس بعدما عجز النظام عن توفير الغذاء والدواء لهم.
لكل هذه الأسباب ادعو القوات السودانية المحاربة في الجنوب، ولا سيما تلك التي بدأت تشعر بأنها تخوض حرباً لا معنى لها، الى المبادرة الى صنع السلام. وسأصدر الأوامر لقوات الجيش الشعبي للبدء بالحوار مع أي فصيل في الجيش يرغب في ذلك. نحن وهؤلاء الجنود نموت كل يوم. ونحن نفطر البليلة والخبز اليابس، وليس البشير والترابي. ونحن وهم قادرون على صنع المستقبل. ونحن القادرون على توفير أرضية للبناء والتشييد. فلا بناء مع الحرب.
الوحدة … او الانفصال
ما الذي تمخض عنه مؤتمر الحركة في شأن تعاونها مع التجمع الوطني الديموقراطي، وفي شأن تقرير المصير؟
- اكد المؤتمر الوطني في قراره السابع اهداف الحركة حسب الترتيب الآتي:
القضاء التام على النظام القهري للحكم في السودان القديم وانشاء سودان جديد وديموقراطي وعلماني يتسم بالعدل.
التزام النضال من اجل ممارسة المقهورين حقهم في تقرير المصير. وربما كان في السودان من يظن ان نظام الحكم في السودان القديم كان عادلاً يوفر الحرية للجميع، لكن الذين حملوا السلاح منذ فترة الحكم الذاتي وحتى اليوم، باستثناء هدنة قصيرة بين 1973 - 1983 لا يشاركون هؤلاء قناعتهم، وإلا فلماذا حملوا السلاح؟ نحن مع وحدة السودان في ظل مفاهيم جديدة للحكم. ولن تفيد الحوار مع الحركة الشعبية تلك الانطباعات الذاتية عند بعضهم ان السودان القديم كان ديموقراطياً وعادلاً ووطناً يتمتع فيه الجميع بالحرية والمساواة في تقاسم الثروة.
اما عن تقرير المصير، فكما يعبر عنه اسمه، انه حق والحقوق لا تمنح، ولا تطلب من احد. ولا نطلب من اي طرف منحها ايانا. نحن نتحدث عن ممارسة حق سياسي. ولسنا في صدد جدل فقهي. ويدهشني ان يضيع بعضهم الوقت في جدل قانوني حول هذا الامر. كما يدهشني ان يكون من بين هؤلاء من يدعو الى الديموقراطية واحترام حقوق الانسان. وعلى كل فإن حق تقرير المصير ليس خياراً بل هو وسيلة يقرر بها الناس ما يريدون بمحض ارادتهم. كان ذلك الخيار هو الوحدة اذا توافرت الظروف الموضوعية لها، او الانفصال اذا تعذرت. ولهذا من الخير للقوى السياسية التي تستهلك نفسها في الجدل في الوسائل ان تصرف طاقتها لتحقيق الظروف الموضوعية التي تجعل الوحدة خيار كل السودانيين.
اما علاقة الحركة الشعبية بالتجمع فقرر المؤتمر القرار الرقم 15 بقاء الحركة في التجمع. الا انه دعاه الى ان يكون اكثر جسارة في النضال ضد نظام الجبهة، فيترجم التزامه النضال المسلح الى عمل ملموس في الوقت نفسه الذي يساهم في الدعم المادي لنضال الحركة… كما اهاب القرار بالمواطنين السودانيين من اعضاء التجمع، والشماليين عموماً الانخراط في صفوف الحركة القرار 704 الى جانب النضال المسلح، لدعم الانتفاضة الشعبية قيد التشكل والتي تشارك فيها كل القوى الوطنية، بالتزامن مع المفاوضات القائمة مع نظام الحكم القائم في الخرطوم.
ما هو الموقف التفاوضي للحركة الشعبية حالياً وأي نظام للحكم تطالب به خلال الفترة الانتقالية؟
- اختارت الحركة الكونفيديرالية نظاماً للحكم في الفترة الانتقالية، خصوصاً أن نظام البشير لا يكف عن القول انه يعبر عن رأي اهل شمال السودان المطالبين بقيام حكم اسلامي في ظل قوانين دينية. وهذه آراء يتحاشى بعض قادة التجمع مواجهتها بجرأة. والشعب السوداني الذي هتف "التبشير ولا البشير" شعب مسلم ورع يدرك بحسه الفطري خطورة الخلط بين الدين والسياسة، كما ثبت في عهد نميري والعهد الحالي.
اما في اطار التجمع فنحن جزء منه نلتزم ميثاقه وبرامجه وسنضع معاً، مع القوى الاخرى، القاعدة الصلبة لمؤسسات الفترة الانتقالية. لأن الوحدة التي نسعى لها هي وحدة السودان الجديد في هياكله السياسية ومؤسساته الدستورية ونظامه الاقتصادي، ومنظومة القيم الاجتماعية التي نؤمن بها في التجمع، بعيداً عن الفرز العرقي والمذهبي والمناطقي. ولا شك في ان تجربة جنوب افريقيا نموذج يحتذى به.
مطروح حالياً اعادة هيكلة التجمع بهدف رفده بحيوية جديدة، فما المطلوب من التجمع كي ينسجم مع ما تطالب به لبناء السودان الجديد؟
- نحن جزء من التجمع، ولهذا لا نريد من احد ان يصنع شيئاً بمفرده. واجبنا هو العمل معاً لبناء السودان الجديد. وهذا لا يتحقق ان لم تكن الاولويات واضحة. فالصراع الذي يدور في صفوف التجمع الآن، واخذ بعضه طابعاً شخصياً، لا يفيد احداً غير نظام الجبهة، كما تدل صحافة الجبهة في الخرطوم. ان الحركة الشعبية، كفصيل في التجمع، على استعداد للعب دورها كاملاً في توحيد الصفوف طالما اتفق الناس على الاولويات. والاولويات في نظرنا هي: تصعيد النضال المسلح ضد النظام بما في ذلك توفير الوسائل المادية والمعنوية، حسم كل القضايا، طبيعة وهوية السودان الجديد بالصورة التي تزيل الهيمنة العرقية والدينية، اعادة هيكلة وصياغة مؤسسات الفترة الانتقالية وتحديد معالم ما بعدها. هذا هو الترتيب المنطقي للامور وما عداه عبث لا طائل منه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.