أمير تبوك يقف على الجهود المبذولة لخدمة ضيوف الرحمن بمنفذ حالة عمار.. الأربعاء    أمير عسير يفتتح المقر الجديد لإدارة رعاية أسر الشهداء، بديوان إمارة المنطقة    بدء اكتتاب الأفراد في 154.5 مليون سهم بأرامكو    أسعار النفط تتراجع    هيئة العقار : تراخيص جديدة للبيع على الخارطة تقدر قيمتها السوقية ب 6 مليارات ريال    نتنياهو يناقض بايدن: «الصفقة» لا تشمل وقف الحرب    أمير الكويت ووزير الخارجية يستعرضان العلاقات الأخوية بين البلدين الشقيقين    تمارين خاصة للغنام ويحيى في معسكر الأخضر    عرض قوي من النصر لضم كاسيميرو    الاتحاد يغري الاتفاق بنجوم صف أول لشراء عقد الموسى    "تعليم الرياض" تنهي الاستعداد لاختبارات الفصل الدراسي الثالث    طلائع حجاج إيطاليا تصل مكة المكرمة    مفتي المملكة ونائبه يستقبلان رئيس جمعية إحسان    انتخاب هالا توماسدوتير رئيسة لأيسلندا    فرصة لهطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    بناءً على ما رفعه سمو ولي العهد خادم الحرمين يوجه بإطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق الرياض    33 ألف منشأة تحت المراقبة استعدادًا للحج    جامعة "المؤسس" تعرض أزياء لذوات الإعاقة السمعية    "أكنان3" إبداع بالفن التشكيلي السعودي    كاميرات سيارات ترصد العوائق بسرعة فائقة    الصمعاني: دعم ولي العهد مسؤولية لتحقيق التطلعات العدلية    بورصة مصر تخسر 24.3 مليار جنيه في 7 أيام    «التعليم» تتجه للتوسع في مشاركة القطاع غير الربحي    الطائرة ال51 السعودية تصل العريش لإغاثة الشعب الفلسطيني    دموع «رونالدو» و«الهلال» يشغلان صحف العالم    لأول مرة على أرض المملكة.. جدة تشهد اليوم انطلاق بطولة العالم للبلياردو    السفير بن زقر: علاقاتنا مع اليابان استثنائية والسنوات القادمة أكثر أهمية    محمد صالح القرق.. عاشق الخيّام والمترجم الأدق لرباعياته    أمير تبوك يعتمد الفائزين بجائزة المزرعة النموذجية    انضمام المملكة لمبادرة الابتكار الزراعي للمناخ يسرِّع الاستثمارات ونظم الغذاء الذكية    عبور سهل وميسور للحجاج من منفذي حالة عمار وجديدة عرعر    نوبة «سعال» كسرت فخذه.. والسبب «الغازيات»    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    ماذا نعرف عن الصين؟!    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    الكعبي.. الهداف وأفضل لاعب في" كونفرنس ليغ"    "كدانة" تعلن عن توفر عدد من الوحدات التأجيرية للأسر المنتجة خلال موسم الحج    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    إطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق مدينة الرياض    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    الصدارة والتميز    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    توبة حَجاج العجمي !    "فعيل" يفتي الحجاج ب30 لغة في ميقات المدينة    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    نمشي معاك    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زعيم جناح الناصر يؤكد ل "الوسط" ان توحيد الحركة ممكن ... من دون قرنق . مشار : على واشنطن تطبيق نموذج اريتريا في جنوب السودان والنفط متاح لمن يتفاوض معنا
نشر في الحياة يوم 30 - 08 - 1993

بعد جولة دامت يوماً وليلة في مثلث الموت في جنوب السودان التقت "الوسط" رياك مشار، زعيم "الحركة الشعبية المتحدة لتحرير السودان".
مقر قيادة زعيم جناح "الناصر" الذي انشق عن العقيد جون قرنق يقع في بلدة لير خارج المثلث حيث يموت بسبب الأمراض الاستوائية والجوع والاقتتال بين جناحي "الحركة الشعبية لتحرير السودان" آلاف من المواطنين وينزح عشرات الآلاف من مناطقهم.
في مقر مشار حرسه الخاص وغالبية أفراده من قبيلته النوير، وثلل مقاتلين عددهم نحو 1500 يرتدون ملابس عسكرية وأحذية جديدة لا تنسجم والوضع المأسوي الذي شاهدناه عن كثب داخل المثلث.
المقر بقايا بناء كولونيالي بريطاني قديم، ويضم مزرعة دواجن صغيرة، وحوله وخلفه تمتد حقول الذرة المثقلة بمواسم واعدة. فالأرض خصبة وحراس الزعيم الجنوبي السوداني لديهم الوقت الكافي لزراعة الذرة.
هنا الأطفال ينامون تحت الأشجار أو داخل البطية بيت من القش، بعضهم يلهو في الحقول يصطاد السحايا والأفاعي ويأكل بعض أجناسها اذا عضه الجوع.
ايما زوجة مشار الاسكوتلندية عملت في منظمة اغاثة غير حكومية في جنوب السودان اسمها "أطفال الطريق". كانت تتجول بين المقاتلين داخل مقر قيادة زوجها، حاملة عصا طويلة، على طريقة "الخواجا" المستعمر الانكليزي الأبيض الذي حكم السودان. ولكن ماذا تفعل هذه المرأة البيضاء في هذه الغابة الاستوائية حيث لا شيء سوى الموت والجوع؟ هل هي المسؤولة عن هندسة العلاقات المتنامية بين بريطانيا والجناح الذي يقوده زوجها؟
طوال لقائنا مع مشار كانت ايما تنصت بصمت إلينا نتبادل الحديث بالانكليزية. وكان يحدق في تقاطيع وجهها كلما أدلى باجابة ما يعتقد انها حساسة. بدا واضحاً انه يفتقر الى كاريزما، أو ما نسميه جاذبية القائد، وإن كان يتميع بدهاء سياسي وواقعية قبلية مفرطة. انه خريج كلية الهندسة في لندن ومارس التدريس في الجامعة السودانية في الخرطوم قبل أن يلتحق بالعقيد قرنق.
سألته "الوسط" عن امكانات انهاء الحرب في الجنوب، وتوحيد فصائل "الحركة الشعبية" ورؤيته لمستقبل علاقة الجنوب بالشمال، فطالب الادارة الأميركية بأن تطبق النموذج الاريتري على الجنوب وتعترف بحقه في تقرير المصير. وقال: "نشهد ظاهرة اعادة رسم للخريطة السياسية لافريقيا". وأكد ان وحدة الحركة ممكنة من دون قرنق "وسنواصل النضال المسلح اذا خذلتنا الخرطوم" في المحادثات الدائرة بين الجانبين. وأشار الى أن النفط في بانيتو "متاح لمن يريد التفاوض معنا بعد استقلال الجنوب". وهنا نص الحديث:
هل ترى أن هذا الكم الكبير من الشقاء والمعاناة والموت العبثي داخل مثلث الموت ضروري لتحقيق الهدف الذي تقاتل من أجله: حق تقرير المصير لجنوب السودان؟ أليست هناك سبل أخرى؟
- هذه اسئلة مشروعة ولكن يجب طرحها على من هو مسؤول عن كل هذا التخريب.
سبقت انشقاقك عن العقيد قرنق ثلاثة تطورات دولية واقليمية مرتبطة بالمسألة السودانية: سقوط نظام منغيستو هايلي مريام حليف "الحركة الشعبية"، ثم مؤتمر لندن برعاية هيرمان كوهين المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي للشؤون الافريقية والذي انتهى بمنح اقليم اريتريا حق تقرير المصير في منتصف تموز يوليو 1991، ثم اصرار حكومة الفريق عمر حسن البشير على المضي في تطبيق تجربة أسلمة الدولة. هل دفعتك هذه التطورات الى رفع شعار حق تقرير المصير لجنوب السودان بدلا من سودان علماني موحد؟
- أود ان أصحح أمراً أساسياً يتعلق بنا، فما حدث هو تغيير أهداف الحركة الشعبية وليس استراتيجيتها.
هل يفهم أن تحالفك مع الحكومة السودانية الحالية هو أيضاً تكتيك جديد لتحقيق الأهداف التي حددتها بعد الانشقاق عن قرنق؟ التيار الرئيسي بزعامة قرنق يقاتل الخرطوم، بينما تهادنها أنت وتعقد معها اتفاقات في فرانكفورت ونيروبي وحديثاً في فاشودة عاصمة مملكة الشلك؟
- ما تغير في 28 آب اغسطس 1991 هو أهداف الحركة الشعبية وليس الاستراتيجية. والتكتيك مسألة ديناميكية معرضة للتبدل وفق الظروف وطبيعة المراحل السياسية والمزاج الدولي.
الاهداف الجديدة
هل تحدد لنا بوضوح الأهداف الجديدة التي تسعى الى تحقيقها "الحركة الشعبية المتحدة لتحرير السودان" بزعامتك؟
- أنا أتحدث باسم جماهير جنوب السودان الذي لم يبدأ نضاله عام 1983 بل قبل ذلك بوقت طويل، حتى قبل الاستعمار الاستيطاني لم يكن السودان وطناً واحداً موحداً بحدوده الجغرافية الحالية المعروفة دولياً.
عندما جاء الأتراك الى السودان كان الجنوب وطناً قبلياً مستقلاً لا علاقة له بالشمال. وعام 1831 ضم الحكم الثنائي المصري - التركي جزءا من الجنوب السوداني الى الشمال. وعندما بدأ الحكم الثنائي المصري - البريطاني عملياً حُكم الجنوب ككيان مستقل من مقر الادارة الاستعمارية البريطانية في الخرطوم. وعام 1938 غيّر البريطانيون رأيهم من دون استشارة شعب جنوب السودان. كان مفترضاً أن تعقد الادارة البريطانية مؤتمراً مع رؤساء القبائل الجنوبية، ولم يحضر الممثل البريطاني. وعلى رغم ذلك تواصل لقاء رؤساء القبائل الذين لم يكونوا جهلة أو أغبياء لا يعرفون ما يدبر لبلادهم. وبعد يومين من اللقاء اعلنت بريطانيا ضم الجنوب الى الشمال عام 1938.
وعندما ترك البريطانيون السودان ومنحوه الاستقلال عام 1956 كان الجنوب كله انخرط في قتال الشمال لتحقيق هذه الأهداف: حق تقرير المصير والاستقلال والسيادة لشعب جنوب السودان بزعامة "انيانيا - 1". وفي 1972 تم التوصل الى اتفاق بين الجنوب والشمال في اديس ابابا برعاية الامبراطور هيلا سيلاسي، ومنح الجنوب نظام الحكم الذاتي في اطار السودان الموحد. لكن الاتفاق لم يدم طويلاً، ففي 1974 اشتعلت نار الثورة في اكوبو وواو وجوبا. وأعلن تشكيل ميليشيات "انيانيا - 2"، من بقايا قوات "انيانيا - 1" التي خاضت الحرب الأولى عام 1956. ولم تحقق الحرب الأهلية الجديدة كثيراً من المكاسب السياسية لكنها نجحت في جذب انتباه الرأي العام الاقليمي والدولي الى زخم نضال جنوب السودان لنيل استقلاله الوطني. وقلنا أنا ورفاقي: هذا هو الشمال يخذلنا مجدداً.
عام 1983 مزق الرئيس السوداني السابق جعفر نميري اتفاقية اديس ابابا للحكم الذاتي، وقسم الجنوب الى ثلاثة اقاليم تابعة مباشرة للخرطوم. فاجتمعنا أنا وجون قرنق وكاربينو بول وقلنا: مرة أخرى يخذل الشمال الجنوب. ومنذ ذلك الوقت حدث خلاف جذري بين فريقين من مناضلي الجنوب: فريق يود حمل السلاح تحت شعار سياسي يطالب بسودان واحد علماني موحد، وفريق يطالب باستقلال الجنوب عن الشمال، انهما مدرستان في النضال لكل منهما أهدافها.
انا واقعي لا أحلم
الى أي من المدرستين تنتمي وكيف تبرر هذا الانتماء؟
- أنا مناضل واقعي، ولست حالماً. أؤمن بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، ومبررات هذا الموقف موجودة في تاريخنا الدموي الذي سردت جانباً منه.
أنت التحقت في بداية الانتفاضة عام 1983 بمدرسة قرنق التي ترى السودان وطنا واحدا، في حين انك تؤمن ضمنياً بخيار حق تقرير المصير، أي انفصال جنوب السودان في صورة غير مباشرة، هل أنت انتهازي؟
- كنت في البداية مع جون قرنق وقاتلت تحت شعار سودان علماني موحد واحد، ليس لاقتناعي بمضامين هذا الشعار ولكن إيماناً بضرورة تغيير أهداف الحركة الشعبية لتحرير السودان من داخل صفوفها وبالحوار السلمي.
منذ تأسيس الحركة في 16 ايار مايو 1983 والحوار لم ينقطع لحظة واحدة حتى حدث الانشقاق في 28 آب اغسطس 1991 "انيانيا - 2" أعلنت صراحة انها مع حق تقرير المصير، ومن داخل الأطر الشرعية للحركة الشعبية.
هل نفهم أن الحركة بدأت كجبهة تحالف عريضة انضوت الى أطرها فصائل جنوبية عدة تناضل لتحقيق أهداف متباعدة؟
- نعم، الحركة الشعبية لم تبدأ كحركة صفوة تؤمن كل فصائلها بشعار سودان واحد علماني موحد. انه من قبيل العبث السياسي أن يستشهد مواطنو جنوب السودان كي يفرضوا على الشماليين نظاماً علمانياً يرون فيه ما يناسب طبائعهم وعاداتهم وتقاليدهم. والنقاش لم ينقطع لحظة واحدة في صفوف الحركة في شأن نقطة مركزية واحدة: ما هي أهداف الحركة الشعبية لتحرير السودان؟
وتواصل الحوار داخل الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان حول الأهداف الحقيقية للنضال. وتحرك قرنق واعتقل عدداً من الرفاق المناضلين الذين يخالفونه الرأي، أحدهم المقدم كاربينو بول الذي واجهه عام 1987 بضرورة اعادة صوغ أهداف الحركة نتيجة اقتناع قبل أن تفرض هذا التغيير علينا ظروف دولية خارجية. خلال هذا النقاش بين كاربينو وقرنق صادف انني كنت في الميدان قائدا عسكريا لهذه المنطقة منذ 1985.
ابعاد الجنوب عن قرنق
هذه المنطقة تعد منطقة الانتشار القبلي للنوير وأنت أبرز قادة هذه القبائل. هل استندت الى هذه المعطيات لتحييد ولاية أعالي النيل عن منطقة عمليات قرنق مسدياً بذلك خدمة كبرى الى الحكومة السودانية؟
- وما الضرر في ان تكون هذه المنطقة تحت سيطرة قبائل النوير؟ تحييد ولاية أعالي النيل عن أيدي قرنق جزء من استراتيجية شاملة لتحييد كل جنوب السودان وابعاده عن متناول قواته.
في شباط فبراير 1990 اجتمعت مع قرنق في أديس أبابا، حيث كانت مقار الحركة الشعبية والجيش الشعبي. كرّس اللقاء للبحث في القضايا التي أدت الى الانشقاق، ومنها الأهداف التي نسعى اليها. وكان في مقدم الاسئلة التي طرحتها على قرنق: لماذا نقاتل في سبيل سودان موحد علماني وليست في الشمال قيادة سياسية واحدة توافقك في تحقيق هذا المطلب. فالصادق المهدي شكل أربع حكومات في فترة حكم الأحزاب، ولم يجرؤ على الغاء قوانين وضعها نميري عام 1983 وسميت زوراً قوانين اسلامية. وعندما اتفقت مع السيد محمد عثمان الميرغني، قلت لقرنق ان الصادق المهدي تواطأ مع الجبهة القومية الاسلامية لاسقاط اتفاقية السلام السودانية التي أقرت تجميد العمل بهذه القوانين حتى انعقاد المؤتمر الدستوري.
وقبل الصادق مزق نميري الاتفاقية التي منحت الجنوب الحكم الذاتي، ومنذ عهده والشمال يخذل الجنوب. سقط نميري وجاء سوار الذهب وبعده الجزولي دفع الله وهما لا يختلفان ضمنياً عن نميري لجهة تحاشيهما تجميد قوانين سبتمبر ايلول 1983. لم يعد سوار الذهب الروح الى اتفاقية الحكم الذاتي، ولم يلغ قوانين نميري التي تحتقر تراثنا وانتماءاتنا المذهبية. سوار الذهب ونميري والجزولي دفع الله والصادق المهدي كلهم من الشمال يعلنون اسلامهم بوضوح، فكيف أفرض عليهم العلمنة؟
قلت لقرنق في آخر لقاء لنا في اثيوبيا: قاتلنا ست حكومات منذ سقوط نميري، ونواجه الآن حكومة ترفع علناً شعار أسلمة الدولة، لذلك اسألك واتساءل لماذا نحاول فرض الوحدة على الشمال؟ ولماذا نحاول، كنخبة جنوبية، تضليل جماهيرنا بشعارات لا يمكن تحقيقها؟
لا قواسم مع الشمال
كيف تحدد جغرافياً جنوب السودان؟
- جنوب السودان يشمل ولايات الجنوب الثلاث وجبال النوبة، ومناطق الشعوب التي تقف معنا في جبال الانقسنا، وجزءا من جنوب النيل الأزرق. واذا شعر هؤلاء بأنهم أقرب الى الشمال منهم الى الجنوب فهذا شأنهم.
ورداً على السؤال عن ارتباط مطالبتي بتقرير المصير لجنوب السودان بسقوط نظام منغيستو هايلي مريام أقول: لو كان نظام منغيستو ما زال في اديس ابابا حين أعلنت الانشقاق عن قرنق لما ترددت في اتخاذ قراري بالانفصال عنه واصدار بيان الناصر الرقم صفر، ولكان منغيستو أول الذين بادروا بالتهنئة والترحيب بهذه الخطوة التصحيحية. نحن في الجنوب لنا ثقافتنا وتقاليدنا المختلفة عن تقاليد الشمال وثقافته. نحن ننتمي الى شعوب شرق افريقيا ولا قواسم حضارية مشتركة بيننا وبين الشمال. اذاً، على أي أساس نطالب بالوحدة معه؟
هل شكل مؤتمر لندن برعاية هيرمان كوهين، أحد المتغيرات الاقليمية التي منحت اريتريا حق تقرير المصير وحرضتك بالتالي على تبديل أهدافك؟
- لم يكن لهذا المؤتمر الذي عقد منتصف تموز يوليو 1991 أي تأثير مباشر في خياراتي، ولم أتابعه عن كثب. الاريتريون خاضوا تجربة النضال المسلح لنيل استقلالهم، واذا اعترف لهم مؤتمر لندن بهذا الحق فهم يستحقونه عن جدارة. الولايات المتحدة لم تنعم على الاريتريين بهذا الاستقلال بل نالوه بعد نضال لربع قرن. لكن واقعية الادارة الأميركية كانت فضيلة سياسية تكاملت مع براغماتيتها فاختارت الاستفتاء نهجا لانهاء نزف الدم في اريتريا. وما على الادارة سوى تطبيق النموذج الاريتري في جنوب السودان.
قبل اسبوعين من وصول الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر الى نيروبي تبلغت انه راغب في لقائك، لكنك اعتذرت عن عدم تلبية الدعوة. فما هو السبب؟
- كنت منشغلاً بانهاء المصالحات القبلية في ولاية أعالي النيل، وكلفت من ينوب عني في ذلك.
الوحدة ممكنة بلا قرنق
كارتر يحاول توحيد فصائل "الحركة الشعبية"، فهل ترى ان ذلك ممكن وبين الفصائل منطقة عازلة من الموت والدمار والأحقاد؟
- نعم وحدة الحركة الشعبية ممكنة ولكن من دون قرنق.
كيف ستتعامل مع ظاهرة العقيد قرنق، هل هو فرد في رأيك أم يمثل تياراً في الجنوب؟
- هل قابلت خلال جولتك في مثلث الموت مواطناً جنوبياً واحداً مؤمناً بالتعايش مع الشمال في وطن واحد؟ لو اتفقنا مع الخرطوم على الفترة الانتقالية التي يليها الاستفتاء على تقرير المصير لانتهت الحرب في جنوب السودان وعم السلام وانتهت ظاهرة قرنق. وجوده مرتبط باستمرار الحرب، وهو الآن ضعيف جداً وقواته محاصرة قرب الحدود الاوغندية - السودانية، بعدما أغلق سقوط كايا بلدة استراتيجية على الحدود خط الامدادات التي كانت تصل اليه من اوغندا.
أعود مجدداً الى مؤتمر لندن الذي اعترف لاريتريا بحق تقرير المصير، ولا استطيع القول إن الخطوة الأميركية شجعتني على التفاؤل والمطالبة بتطبيق النموذج الاريتري في جنوب السودان. فواشنطن لم تعترف لنا بحق تقرير المصير، ولا نعرف موقفها الصحيح من هذه القضية المهمة بالنسبة إلينا.
النفط متوافر
كلما طرحت المسألة السودانية في أوساط الحكومة البريطانية ومع مسؤولين أوروبيين وأميركيين تنصح لندن اصدقاءها بضرورة الاستماع الى وجهة نظركم. فكيف تفسر الاهتمام البريطاني الخاص بكم؟ هل مرده النفط الموجود في بانيتو الخاضعة لسيطرة قواتك؟
- هذا أمر جيد. نحن حركة نضال مسلح نقاتل لنيل استقلالنا، وأنا مستعد للتفاهم مع كل من يتعاطف معنا، سواء عن اقتناع أم مدفوعاً بمصالح شخصىة. النفط متوافر في بانيتو ومتاح لمن يريد التفاوض معنا لاستثماره متى انتهت الحرب ونال جنوب السودان استقلاله.
كيف تصف علاقات التيار الذي تتزعمه مع الادارة الأميركية؟ هل تعتقد بأن واشنطن ترتاب من علاقاتك مع أوروبا فتفضل التعامل مع قرنق؟
- الادارة الأميركية تتعامل معنا كما تتعامل مع قرنق، ونحن طرف لا يمكن أي لاعب دولي مهتم بالسودان أن يتجاهلنا.
تهتم الادارة أكثر من حلفائها الأوروبيين بتوحيد فصائل "الحركة الشعبية"، والدليل مساعي السفير الأميركي في الخرطوم ثم جهود الرئيس كارتر. لماذا في رأيك هذا التفاوت في الاهتمام علماً ان بريطانيا أقرب الى السودان من الناحية التاريخية؟
- أنا أيضاً مهتم بتوحيد الحركة الشعبية.
وهل تعتقد بأن مؤتمر لندن اذن لولادة الدولة القبيلة في القرن الافريقي، واريتريا كانت البداية؟
- لا.
إعادة رسم الخريطة
ألا ترى ان استقلال دولة اريتريا ومطالبتك بحق تقرير المصير لجنوب السودان هما بمثابة اعادة رسم لخريطة القارة الافريقية؟
- نعم، نحن نشهد ظاهرة اعادة رسم الخريطة السياسية للقارة، وما الضرر في ذلك؟ الخريطة القديمة لافريقيا مصطنعة، والنزاعات الاقليمية في القارة السمراء سببها هذه الاعتباطية في رسم الحدود السياسية للدول الافريقية.
على أي أسس تجب اعادة رسم الخريطة السياسية لافريقيا؟ على أسس قبلية بحتة؟
- على أساس رغبة الشعوب في التعايش مع شعوب أخرى تربطها بها قواسم مشتركة. ففي اثيوبيا مثلاً مئات الآلاف يتحدثون اللغة المتداولة في اريتريا، ومع هذا لم يختاروا العيش في الدولة الاريترية.
تقول انك لا تثق بالشمال السوداني ولا بسياسييه، في ضوء ماضي العلاقة بين الشمال والجنوب. لكن التيار الذي تقوده ابرم اتفاقات عدة مع الحكومة السودانية الحالية. فكيف تفسر هذا التناقض في مواقفك؟
- الحكومة الحالية في الخرطوم تعلن صراحة هويتها الاسلامية وتمضي في تطبيق تجربة أسلمة الدولة. نحن لا علاقة لنا بما تختاره الحكومة التي تعرف أن سياسة الأسلمة طبقت في السابق في الجنوب ولم تنجح في تحقيق غاياتها. استاذنا سليمان ياسين، وهو شمالي مسلم، كان يضربنا عقاباً لنا لأننا نذهب الى الكنيسة يوم الأحد، لكننا واصلنا التمرد على وصاياه واحتفظنا بهويتنا وثقافتنا. هذا حق يكفله الاسلام.
الحكومة السودانية الاسلامية الحالية راضية بالتفاوض معنا على خيار تقرىر المصير، لكننا اختلفنا على مدة الفترة الانتقالية والترتيبات الأمنية والادارية خلالها.
هل تعتقد بأن الحكومة السودانية صادقة في نياتها حيالكم أم تستخدمكم ورقة ضغط على قرنق، فتتفاوض معك في نيروبي فيما يفاوض وفدها الرسمي قرنق في أبوجا؟
- عدم صدق الحكومة السودانية، اذا افترضنا ان ذلك صحيح، يعني انها راغبة في مواصلة الحرب في الجنوب. ولو لم تكن صادقة في نياتها معنا لما قطعت في تفاوضها مع تيار الناصر هذه الأشواط البعيدة. ومهما يكن سنواصل النضال المسلح اذا شعرنا بأن الخرطوم ستخذلنا.
وهل ترى ان القوة الكبرى الوحيدة في العالم راغبة في مواصلة الانفاق على نضالك المسلح؟
- انتهى عصر القطبية الثنائية لكن هناك قوى عظمى صغيرة مهتمة بمساعدة الشعوب الساعية الى نيل استقلالها.
انفصلت عن قرنق بحجة الميل الى الواقعية لكنك الآن تتحدث في اطار من الرومانسية النضالية؟
- السياسة الدولية فن غير ثابت يخضع للتبديل. صحيح ان قوة كبرى وحيدة تسيطر اليوم على العالم ولكن هل تمكنت من القضاء على بؤر التوتر في مداراتها السياسية حول العالم، في ليبيريا وناميبيا وسييراليون؟
اذا قبلت الخرطوم الاعتراف بحق تقرير المصير للجنوب ألن تخشى "دولتك العتيدة" جارتها الشمالية التي تواصل تطبيق تجربة اسلمة الدولة؟ وما هو تصورك للعلاقة بين دويلة الجنوب والشمال؟
- هذا الأمر لا يستأثر الآن باهتمامي وهناك أولويات أخرى. الحكومة الحالية في الخرطوم لا تختلف في شيء عن حكومات سبقتها، حتى في فترة الديموقراطية وحكم الأحزاب بزعامة الصادق المهدي.
نسألك مجدداً هل تصبح وحدة "الحركة الشعبية" ممكنة اذا أعلن قرنق قبوله بخيار تقرير المصير لجنوب السودان؟
- جون قرنق سياسي، والسياسي معرض لتغيير مواقفه. أما في موضوع الاتفاقات التي أبرمناها مع الحكومة السودانية فيهمني ان أوضح ان لقاء فرانكفورت كان مجرد توطئة لاعلان مبادئ وليس اتفاقاً. وما حدث في نيروبي كان مجرد محادثات لم تؤد الى نتيجة. لو كنت أنا محل الفريق البشير لمنحت جنوب السودان حق تقرير المصير واسترحت وأرحت بلادي، ورضيت بفترة انتقالية قصيرة مدتها سنتان تنتهي باستفتاء شعبي على تقرير المصير على الطريقة الاريترية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.