في اليوم الثامن والعشرين من تموز يوليو من كل سنة تصاب مدينة روتردام الهولندية بجنون الرقص مثلما يصاب بعض مدن العالم بجنون كرة القدم أو غيرها من الألعاب والطقوس. غير أنها تصاب تحديداً بجنون إيقاعات موسيقى أميركا اللاتينية وحوض الكاريبي التي ترقّص حتى المعاقين. فتيات بلون القمح والشكولاته بملابسهن ذات الألوان الحارة أشعلن روتردام المشتعلة أساساً بموجة الحر برقصهن الذي لا يترك مجالاً للهدوء. أكثر من مليون إنسان من داخل هولندا وخارجها حضروا إلى كرنفال الصيف ورقصوا تحت الشمس حتى آخر ضربة طبل يعيش في هولندا مواطنون من مئة وعشرين بلداً نصفهم من أميركا اللاتينية. لقد تحول الرقص الى فن من أرقى الفنون المعاصرة، ولا توجد أمة اليوم من دون رقصات خاصة توحي بتراثها وثقافتها. فبمجرد أن يقال سامبا مثلاً تحضر البرازيل ويحضر منتخبها الأصفر. غير أن السامبا هذا اليوم وفي روتردام بالتحديد كانت حاضرة بكل قوتها واستقطبت عدداً كبيراً من الناس كما يفعل الأصفر في المواجهات والبطولات. المختلف في الأمر هو ان النساء هنّ أبطال هذه المواجهة بحركاتهن التي تجعل الجسد يتكلم، لا بل يصرخ ويثير عاصفة في الجمهور الذي لم يتمالك نفسه فنزل إلى ساحة الرقص واستجاب ورقص حتى آخر رمق. وإذا كانت رقصة السامبا الأكثر إثارة واحتفالاً بالحياة والطبيعة مثلها مثل الفلامنكو الاسباني الذي يصور الشغف بالمحبوب وإثارته إلى درجة الانغمار بالآخر، فإن الرقص الجامايكي والسورينامي وحتى المغربي في كرنفال هذه السنة سرق الأضواء من السامبا ورشحت راقصات منه لنيل جائزة أجمل راقصة. ما الذي تغير هذه السنة؟ الذي تغير هو طريقة النظر الى القيمة الجمالية لما ينبغي أن يكون عليه القوام. غالباً ما كانت السورينام والبلدان اللاتينية تشارك براقصات بدينات، ولكن هذه المرة رأينا فتيات أقرب الى المثال الإغريقي: امتلاء وقوة من دون ترهلات، طول مناسب يقترب من الموديل العالمي. لذلك تميزت جامايكا والمغرب بعض الشيء على رغم ان الراقصات المغربيات ظهرن بكامل ملابسهن! انطلقت المواكب المحمولة على عجلات من أمام مبنى البلدية بعد انتصاف النهار الحار والرطب باتجاه شارع المحطة الأكثر طولاً واستقامة. وكانت الموسيقى تسمع على بعد كيلومترات عدة يرافقها غناء باللغة الاسبانية، لغة المستعمرات القديمة في أميركا اللاتينية، بالإضافة الى الهولندية وموسيقاها التقليدية. امرأة تجاوزت الستين ترتدي قبعة كبيرة لخصت شعور الحاضرين كلهم عندما قالت:"إنني سعيدة لرؤية كل هؤلاء الناس يرقصون. لن تستطيع ان ترى كل يوم هذه الجموع ترقص بكل هذه السعادة، منذ انطلاق هذا الكرنفال وأنا أحرص على أن أكون حاضرة، وهي مناسبة لزيارة ابنتي التي أراها اقل من مرتين في السنة وهي تسكن في روتردام". وأثار انتباهنا شاب هولندي معاق وهو يقفز من عربته ليرقص وسط حشد من الفتيات البرازيليات، وعلى رغم انه بلا قدمين فقد حاول ان يعبّر عن مكنون مشاعره بقفزات واطئة سريعة، فقلنا له: من أين تستمد هذه الطاقة؟ أجاب:"لم استطع مقاومة الموسيقى، اشعر بأنني خفيف وسعيد ولدي القدرة على مشاركة الآخرين هذا الفرح".