كان حدثاً مهماً قبل سنتين ونيف حين أعلن في دمشق عن تعيين الكاتبة والناقدة السينمائية ديانا جبور مديرة للتلفزيون السوري. الخبر ادهش كثراً، لكنه افرح في المقابل كثراً، وجدوا في الأمر اكثر من دليل انفتاح، على السينما وعلى التوجه الليبرالي الواعي، وعلى قضية"تسليم"امرأة مقدرات الجهاز الإعلامي الرئيس في البلد. وفي المقابل راهن كثر على فشل ممكن لديانا جبور في مهمتها سيقودها الى الانسحاب سريعاً. لكن هذا لم يحدث. صحيح ان الظروف السياسية، صلّبت الخطاب الإعلامي السوري، لكن الأداء الفني والبشري شهد في الوقت ذاته تطوراً مشهوداً، لا سيما في وقت كثر فيه الحديث عن السماح لمحطات تجارية تتبع القطاع الخاص في هذا البلد الذي كان الإعلام الرسمي فيه - ولا يزال الى حد كبير - من شؤون السلطات. اليوم بعد سنتين على التجربة، كان لا بد من التوجه الى ديانا جبور لطرح مجموعة أسئلة وتساؤلات عليها، خصوصاً في ما يتعلق بآفاق عمل المحطات التلفزيونية الحكومية أو... الرسمية، او تلفزيونات الدولة. وكان السؤال الأول لمعرفة ما إذا كانت المديرة ? الناقدة، توافق الذين يتحدثون اليوم عن ان المحطات الحكومية استسلمت نهائياً في المعركة التي بدا لسنوات خلت انها تخوضها ضد الفضائيات الخاصة والسموات المفتوحة؟ تجيب:"علينا، أولاً، التمييز بين المحطات الحكومية والمحطات الرسمية، أو تلفزيونات الدولة. فالفارق بينهما كبير، إذ بينما تتحول الأولى إلى العمل الإعلاني والدعائي لهذا المسؤول أو ذاك الوزير فتفقد صدقيتها والانطباع بأنها على مسافة واحدة من الأطراف كافة، يحاول التلفزيون الرسمي أو تلفزيون الدولة أن يكون جسراً في اتجاهين ما بين الحكومة والناس، فيطلع الطرفين على واقع حال كل منهما، وعلى مطالب الناس. وهكذا يصبح هؤلاء مصدراً من أهم مصادر أخبار التلفزيون وحكاياته. طالما ان التلفزيون يقوم، تبعاً لهذا المنطق، بتسليط الضوء، ليس فقط على مشاريع الحكومة بل على ثغرات أدائها ومكامن خلل الأداء فيها، ما يجعل التلفزيون الرسمي مطلباً رسمياً وحاجة شعبية". إستسلام بعد هذه المقدمة تنتقل جبور إلى سؤال الأساس قائلة:"لو استسلمت المحطات الرسمية، لكان قضي الأمر ولاختلفت صيغة السؤال إلى لماذا التقريرية بدل هل الاستفهامية كما جاء في السؤال. أياً يكن الأمر لا بد من التساؤل هنا عن سلاح المحطات الحكومية لمجابهة الهجمة الفضائية وهجمة المحطات الخاصة. والجواب في عرفي هو سلاح المحطات الرسمية بل أسلحتها تقسم إلى استراتيجية وتنفيذية. في الاسترتيجية تأتي الهوية في المقدمة، هوية المحطة كما هوية الجمهور المستهدف، ومن ثم الإخلاص لها وتطويرها، لأنني أعتقد بأن العالم برمته يسير في اتجاه الفرز والتخصص. أما إن حاولنا التقليد أو المحاكاة فلن نصل إلى مستوى الأصل. وكي لا يظل كلامي مجرداً سأسوّق مثلاً. إن قنوات المنوعات ببرامجها الباهرة والباذخة، وأحياناً الصادمة، أو أغنياتها الفاضحة تجتذب محبي هذا النوع أو من يبحثون عن فسحة تسلية، لذلك أرى من غير المجدي أن نمرر بين الفينة والأخرى أغنية بين برامجنا الاعتيادية، أو حتى أن ننجز أحد برامج الواقع، لأن هذه الشريحة تريد أن تحظى بما تحبه ما ان تفتح جهاز التلفزيون. الأمر ذاته ينطبق على الأخبار، فمن يريد أن يفتح الجهاز ليدرك ما يجري في غواتيمالا أو أفغانستان أو... سيختار من بين محطات إخبارية محددة ومعروفة. بين هذين القطبين تحتل التلفزيونات الرسمية موقعها، فيصبح التلفزيون السوري الخيار الأول والفوري للمشاهد المهتم بالشأن السوري لجهة الإطلالة على ما يستجد في سورية على صعيد السياسة أو التعليم أو الاقتصاد أو المهرجانات أو الفنون والثقافة أو المستوى الخدمي أو المناخ الاستثماري... من دون أن يفهم مما قلته الانغلاق في قوقعة المحلية، بل التركيز عليها والانطلاق منها في التعاطي مع ما هو إقليمي أو كوني". قوانين السوق ضمن هذا الإطار، ما الذي يميز إذاً القنوات الخاصة عن القنوات الرسمية، هل هو إفلاتها من الرقابة؟ قدرتها على اجتذاب النجوم؟ منطق الرأسمال؟ أو العداء المعروف لدى الناس لكل ما هو رسمي، ولماذا؟ وهل ستخضع البلدان التي لم تسمح بعد بتدشين قنوات خاصة، اخيراً، لقوانين السوق؟ تجيب:"الحس التجاري عامل مهم وحيوي بالنسبة للانتشار والشعبية، لكنه ليس بالضرورة معيار الجودة والابداع أو النبل والسمو... أما القول إن الناس تميل بالفطرة لمعاداة الرسمي فلا يمكن الجزم بإطلاقه بدليل جماهيرية التلفزيونات الفرنسية أو"بي بي سي"البريطانية... هذا لا يعني أن في إمكان التلفزيونات الرسمية أن تظل في برجها العاجي محتمية بمعطف الموضوع والرسالة، إذ لا أهمية لمضمون لا يجد مستهلكاً بالمعنى المباشر لا المجازي للكلمة. ما يعني أن علينا المصالحة بين الرسمية والجدية مع ما هو تجاري وممتع وجذاب، وهو ما يمكن تحقيقه بتحويل هذه المؤسسات الرسمية إلى قطاعات مشتركة ممولة جزئياً من الدولة كأَسهم بما يحمي استقلاليتها وعدم ارتهانها للسوق في حالته المتغولة. أما الجزء الآخر من الأسهم فللقطاع الخاص وللعاملين أنفسهم لأسباب عدة قد لا يكون هنا مجال التفصيل في أسبابها". يقودنا هذا الى سؤال لا بد منه: لماذا استمرار القنوات الرسمية على رغم الخسائر التي تتكبدها، خصوصاً أن البعض يرى ان مهمتها ان تكون بوقاً للسلطة لا يغري أحداً؟ "ألا يذكر تعبير بوق بحال الحرب؟ لم لا نقول مرآة أو واجهة؟"تسأل جبور وتجيب:"على أي حال أجزم أن كل سلطة تحتاج إلى أداة تبرز من خلالها إيديولوجيتها، سواء كانت سلطة دينية أو اقتصادية أو سياسية. المهم أن نبتعد عن الاحتكار والفظاظة ومبدأ الإلغاء والإقصاء".