الارتباك الذي يلازم الانتخابات اللبنانية الحالية طبيعي. كانت التطورات مفاجئة وسريعة ومتلاحقة. يتوجه اللبنانيون الى صناديق الاقتراع في ظل غيابين كبيرين: غياب الجيش السوري وغياب رفيق الحريري. وفي دورة الحياة السياسية اليومية غابت ثلاث نقاط ارتكاز اساسية كانت تصنع المواجهات والاعتراضات والتسويات. انسحب العميد رستم غزالة مسؤول الاستخبارات السورية واستقال اللواء جميل السيد مدير الأمن العام اللبناني وسبق الخطوتين استشهاد رفيق الحريري. وبغياب نقاط الارتكاز الثلاث انهارت قواعد اللعبة التي ادير بموجبها لبنان منذ مطلع التسعينات، ووجد اللبنانيون انفسهم امام امتحان كبير لإعادة تنظيم اللعبة بينهم من دون وصي او وسيط. مع انسحاب القوات السورية وتشكيل لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الحريري، حققت المعارضة اللبنانية الهدفين اللذين كانا يشكلان القاسم المشترك بين كل مكوناتها. بعد الإنجاز وفي ظل الدعوة الى انتخابات نيابية لم يكن امامها غير التحول مجدداً الى معارضات تتفق وتختلف وتلتقي وتفترق في حسابات أحجام الزعامات والتيارات والطوائف والمناطق. هكذا نزلت الديموقراطية من عالم الشعارات المرفوعة الى ارض الواقع لتطبخ بالصلصة اللبنانية بما تعنيه من مخاوف وحساسيات وشهيات وخيبات، بعدما طحنت الحرب والسلم الذي اعقبها الأحزاب والزعامات العابرة للطوائف والمناطق. توحي المؤشرات ان المعارضات اللبنانية ستتمكن من الفوز بغالبية مريحة في المجلس النيابي الجديد. لكن طبيعة التركيبة اللبنانية، خصوصاً ثبات تمثيل الطائفة الشيعية على حاله، تشير الى ان هذه المعارضات لن تكون طليقة اليد في اطلاق تغيير كبير. ويمكن القول ان الانتصار الانتخابي سيحملها مسؤولية غير مسبوقة. فغداة الانتخابات ستطرح مجموعة اسئلة لا يكفي توفير الغالبية النيابية للرد عليها. هل تستطيع المعارضات تغيير رئيس مجلس النواب ام ان الرئيس نبيه بري، بحكم موقعه في طائفته، هو من الثوابت؟ وإذا كان لا بد من بري، وهو حليف اساسي لسورية، فهل ستكون سهلة معركة ازاحة الرئيس اميل لحود في غياب آلية دستورية كفيلة بتأدية هذه المهمة؟ وهل يمكن اطلاق التغيير مع بقاء رموز الحقبة السابقة في مواقعهم؟ ثم ان الحكومة الجديدة، وبغض النظر عن اسم رئيسها، ستواجه ملفات شائكة اولها ملف استكمال تطبيق بنود القرار 1559، وتحديداً ما يتعلق بنزع سلاح"حزب الله". وليس سراً ان الحكومة الجديدة لا تملك مثل هذه الرغبة فضلاً عن القدرة. لهذا يتوقع ان توضع هذه المسألة تحت عنوان الحوار الداخلي، لكن، هل يستطيع لبنان اقناع الدول الكبرى بإعطائه مهلة مفتوحة لمعالجة هذا الملف، خصوصاً بعد الخطاب الناري الأخير للأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصرالله واعترافه بالترسانة الصاروخية التي يمتلكها الحزب؟ وإذا كان بديهياً ان يدعم اللبنانيون المقاومة لاسترجاع كل شبر محتل، فهل تستطيع الحكومة الجديدة الموافقة على"الوظيفة الإقليمية"للمقاومة؟ ثم ماذا عن بناء علاقات"صحيحة وصحية"مع سورية وعن حدود الرعاية الغربية للوضع الجديد في لبنان؟ هذا فضلاً عن الملف الاقتصادي وشروط العودة الى معالجته. يمكن الحديث عن مهمة تسبق ما عداها وهي ان ينجح الفائزون في الانتخابات في استعادة ثقة اللبنانيين بدولتهم وألاّ تضم الحكومة الجديدة رموز الفساد في الحقبة السابقة. وتتلازم مع ذلك مهمة قيام قضاء نزيه ومستقل وإعادة بناء الأجهزة الأمنية للاضطلاع بمهماتها الأصلية. الأهم من الانتصار في الانتخابات هو ما يفعله المنتصرون بانتصارهم، خصوصاً ان الرياح التي تهب في المنطقة لا تعد بأيام وردية.