كثرت الأوصاف التي تناولت نتائج الانتخابات النيابية في بيروت، وأدت الى نجاح لائحة الرئيس رفيق الحريري كاملة. فمن قائل انها "زلزال" أو "إعصار"، أو "اكتساح"، أو "هزة" لحقت بالموالين، الى قائل انها "مجزرة" أو "انقلاب" تعبيران استخدمهما عسكريون، فإن هذه التعابير وغيرها ترمز الى حدث كبير لم يشهد مثله لبنان في الانتخابات، ليس فقط منذ نهاية الحرب، بل ربما في تاريخه السياسي. وفور ظهور النتائج، بدأت الأوساط السياسية بتقويم النتائج من الزاوية السياسية، خلفياتها ومفاعيلها وأبعادها. لكن أي تقويم أو دراسة يحتاج هذه المرة الى "قراءة متأنية" لما حصل، مختلفة كلياً عن تلك "القراءة المتأنية" التي قامت بها "الوكالة الوطنية للاعلام" الرسمية، الأسبوع الماضي لنتائج انتخابات جبل لبنان والشمال يوم الأحد 27 آب اغسطس، وقد سرّبها اليها مستشارون لكبار المسؤولين، قراءة اعتبرت ان المعارضة لم تحقق انتصاراً، وجاءت أشبه بوضع النعامة رأسها في الرمال، ليس لها من تفسير سوى رفض الاعتراف بالواقع والحقائق. اما القراءة "المتأنية" الفعلية المطلوبة الآن، فهي تلك التي يحتاج اليها اركان الحكم، والمعارضون على السواء، ليعرف كل من الفريقين اين يضع قدميه، فلا يبقى الأولون غارقين في "الدونكيشوتية" التي كانت سبباً من أسباب ما حصل، ولا ينتقل الآخرون المعارضون الى حال سكر بالانتصار، تعمي بصيرتهم، أمام ما يبصرون من ابتهاج بما تحقق. ومع ذلك فان للقراءة الأولية، في انتظار "المتأنية"، التي يفضل من هم في موقع القرار، أو المسؤولية السياسية التريث في اجرائها، سواء في لبنان أو في الخارج، تشير الى استنتاجات لا بد من تسجيلها كالآتي: انها المرة الأولى التي تحقق فيها القوى المعارضة هذا المقدار من الارجحية، في مواجهة الحكم، خصوصاً في بيروت، في التاريخ السياسي اللبناني الحديث. ومع ان بين لائحة الحريري في دوائر العاصمة الثلاث، من يمكن خصومه ان يصنفونهم على غيره في ولاءاتهم السياسية، فان هؤلاء نجحوا بالأصوات التي استطاع هو تجييرها اليهم. وهذا الاكتساح مصدره عوامل عدة، أبرزها وأهمها، النقمة الشعبية والسياسية العارمة على سياسة الحكم والحكومة في المرحلة الماضية على الصعد السياسي والاقتصادي والاداري والاعلامي، بل ان الأخيرة، اي السياسة الاعلامية التي شنت حملة عنيفة على المعارضين قبيل عمليات الاقتراع، اسهمت الى حد كبير، في مضاعفة وهج انتصار المعارضين والحريري، اضافة الى مساهمتها في صنعه. وهي المرة الأولى التي تظهر فيها أرجحية المعارضة على هذا الشكل لأنها أدت بالانتخابات النيابية، لا عبر الشارع، الى احداث تغيير في موازين القوى السياسية، وبالتالي في التوجهات المقبلة للدولة ومؤسساتها. فالمعارضة سبق ان حققت انتصاراً كاسحاً عام 1952، بعد نجاحها عبر تحرك كبير في الشارع، أدى الى استقالة الرئيس الاستقلالي بشارة الخوري من الحكم، فحصدت نتيجته المقاعد النيابية في بيروت والجبل والشمال وسائر المناطق، في الانتخابات التي اعقبت الاستقالة، فكان انتصارها نتيجة طبيعية لما حصل في الشارع. وفي وقت يرى دارسو تلك الحقبة ان الجديد في ما حصل هو ان الانتخابات جنّبت البلاد تحركاً في الشارع، فان هؤلاء يشاركون مخضرمين عايشوا تجربة العام 52، في الرأي القائل ان ظروف المواجهة بين المعارضة التي قامت العام 2000، مختلفة عن تلك التي شنت عام 52 لأنها أقل حدة، ولأن شعارها مختلف تماماً، اذ سعى بشارة الخوري الى تجديد ولايته، فيما الخلاف الآن بين المعارضين والحكم لا يقتصر على سياسته هو، بل يشمل الحكومة وسياستها ولا يتناول مبدأ استمراره في الحكم، بل أداءه وعلاقاته بالقوى السياسية. وهذه المقارنة بين الحالين توجب النظر في ما حصل ليس فقط في بيروت، بل في الجبل ايضاً، ومناطق اخرى، واحتساب مفاعيله على امتداد لبنان ككل. ان اكتساح بيروت، مركز القرار السياسي، والتوازنات السياسية، أحدث هزة في الزعامة السياسية فيها. فالحريري، الذي كان حتى مدة خلت يعتبر "ظاهرة" سياسية واقتصادية اكثر من زعامة سياسية على رغم ان وهج الظاهرة وهالتها يكونان في اكثر الأحيان أكبر وأقوى من وهج الزعامة وهالتها فان التراكمات التي نشأت من دور الحريري في الدولة، وفي الحياة السياسية سمحت له ببناء زعامة، اخذت تنمو ليتحول أحد زعماء العاصمة، والطائفة السنية في لبنان، ثم أحد زعماء اللعبة السياسية المحلية، بابعادها الخارجية. وانتخابات بيروت جاءت لتزيد على هذا التحول زعامة بيروت لأنها أدت الى اقصاء زعامتين ثابتتين ورمزين فيها، الرئيس سليم الحص، وتمام صائب سلام، بما للأول من تاريخ محترم وللثاني من رسوخ في تصدر عائلة أدت دوراً في تاريخ البلاد. وهذا الاقصاء يجعل من الحريري المرجعية الأبرز في العاصمة وضمن السنة، على الأقل، اذ ان العاصمة والطائفة لا تحتملان احادية في الزعامة نظراً الى تنوع التيارات السياسية فيهما من جهة، ونظراً الى ان لا احد قادراً على الغاء احد من الزعامات السياسية في لبنان، مهما تراجع الزخم او النفوذ لدى هذا أو ذاك... والانتقادات الموجهة الى الحريري من كثيرين انه كان في استطاعته المساهمة في انجاح الحص وسلام، كما فعل جنبلاط بالنسبة الى خصمه طلال ارسلان في الجبل، لا يلغي الحديث عن مرجعية الحريري... انها المرة الأولى التي يبلغ فيها التصويت السني في العاصمة هذه النسبة العالية، في تاريخ الانتخابات النيابية اللبنانية، وقد قاربت 65 في المئة وتجاوزتها في بعض مراكز الاقتراع. انها المرة الأولى التي يحصل فيها فرز سياسي داخل كتلة اصوات الأرمن في لبنان، التي كان من الثوابت اعتبارها كتلة مغلقة على أي تأثير سياسي من قوى سياسية اخرى. وبدأ هذا الفرز يظهر من الناحية النفسية في المتن الشمالي عبر المرشح الأرمني اليساري رافي مادايان وحليفيه نسيب لحود وميشال سماحة، وتكرّس في بيروت في شكل لم تعد فيه كتلة الناخبين الأرمن هي الكتلة المرجحة في أي اقتراع لمصلحة مرشحي السلطة، اذ ان نحو ثلثها اقترع الى جانب مرشحي الحريري. والى العناصر المذكورة، فاصحاب القراءة "الأولية" لنتائج ما حصل لا يتوقفون عند هذه الحدود، بل يذهبون الى تعداد عناصر اخرى. وإذ تكتفي "الحياة" بتسجيل أبرزها في انتظار القراءة "المتأنية" التي ستحدد عناصرها ردود الفعل المختلفة، تمكن اضافة الآتي اليها: ان هذه الانتخابات في مجملها، هي الانتخابات التي شهدت أقل تدخلات ممكنة للتأثير في نتائجها، سواء تحت عنوان "التزوير" أو الضغوط... خصوصاً في بيروت والجبل وبعض الشمال، بالمقارنة مع انتخابات 1992 ثم 1996، في شكل يجعل شرعية المجلس النيابي الجديد اقل عرضة للتشكيك من جانب معارضين أو قوى خارجية من المجلسين السابقين. ان سورية أدت دوراً، بعد حملات المعارضة العالية الصوت ضد تدخلات الاجهزة في المرحلة التحضيرية للانتخابات، في ان تأخذ الانتخابات مداها بالمعنى اللبناني للكلمة، ما شكّل رسالة سورية الى قوى عدة: الحكم والدول الغربية واللبنانيين، بأنها تؤسس لسياسة جديدة، خصوصاً حيال التمثيل النيابي والسياسي. ان هذه الانتخابات، بما رافقها من سجال سياسي وملفات حساسة فتحت، من المصالحة الوطنية والانفتاح المسيحي الاسلامي، الى العلاقات اللبنانية السورية، انتهاء بالوضع الاقتصادي وسياسة الحكم، تنقل الحياة السياسية في البلاد من حال رتابة عاشتها خلال السنوات الماضية، وبعد انهاء الحرب، الى مرحلة جديدة اكثر حيوية. ان النتائج وانتصار المعارضين والحريري ستطرح السؤال هل قادة المعارضة، ورئيس الحكومة السابق تحديداً، قادرون على المحافظة على انتصاراتهم وتثميرها، ام ان الآتي سيأكل من رصيدها. وهو سؤال لن تأتي الاجابة واضحة عنه قبل أشهر.