التشهّي في مجالات تطبيق الرؤى، وذلك بإقحامها في الأحكام الشرعية، والسياسة بين الراعي والرعية، وهذه أمورٌ لا تعمل فيها الرؤى؛ لأن الأحكام الشرعية والشؤون السياسية مستندةٌ إلى أحكامٍ شرعيةٍ وأنظمةٍ مرعيّة، وهي مستغنيةٌ عن أن ترفدها الرؤى بشيء من الأحكام، بل لا يسوغ بناء شيء منها على رؤيا منامية أصلاً.. ما من بابٍ من أبواب المعرفة إلا وتنطلق فيه طائفتان من الألسنة، الأولى: ألسنةٌ أمينةٌ حكيمةٌ يُقدّر أصحابها المعرفة ويُراعون حرمتها، ويحبّون ما يتكلمون فيها، ويُخلصون في ذلك، وإذا كان ذلك الباب من أبواب العلم الشرعيِّ تضاعف استحقاقه للاحترام وتنزيهه عن التشهّي والاستغلال، والثانية: ألسنةٌ تتخبط كيف شاءت، لا تنطلق من ضوابط معيّنة تحكمها، ولا يُراعي أصحابها حرمة العلم، ولا يرجعون في الفنون إلى المختصين فيها، ومن الأبواب العلميّة التي ولج إليها كثيرٌ من أهل التشهّي باب الرّؤى، مع أنه جديرٌ بأن لا يحوم حوله إلا أمينٌ عارفٌ؛ لأن رؤيا المؤمن جزءٌ من أجزاء النبوة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنهَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»، متفق عليه، فما كان كذلك فحقّه التوقير والإجلال، ولا يمكن أن يحترم الإنسان شيئاً من العلوم إذا زاوله بلا معرفة، وتكلم فيه بلا ضوابط، فمجرد التفكير في الكلام في الرؤى بلا درايةٍ، يُعدُّ استخفافاً بهذا العلم وبالنبوة التي يُعدُّ جزأ منها، وقد قيلَ للإمامِ مالكِ بنِ أنسٍ -رحمه الله-: "أيُعبِّرُ الرُّؤيا كلُّ أحدٍ؟ قال: أيُلعَبُ بالنُّبُوَّةِ؟"، وإذا أقدم الإنسان عليه نتجت عن ذلك هَنَاتٌ كثيرةٌ تُحتسبُ جنايةً على ذلك الحقل المعرفي، ولي مع الرؤى والمتشهّين وقفات: الأولى: التشهّي في حصولها ومضمونها، فبعض الناس قد يحبك حكايةً من نسج خياله، فيحكيها للناس على أنها رؤيا، وبعضهم قد يرى رؤيا، يظن ببعض تفاصيلها الخير وببعضها السوءَ، فيتصرف فيها بحذف ما يخشى منه، وزيادة ما يرجو منه، حتى يُكيَّفها بما يهواه، وكلا الأمرين حرام ٌشرعاً، قبيحٌ عرفاً؛ فالرؤيا حدثٌ معيَّنٌ يُؤتمنُ الرائي على نقله، ومحتوى الرؤيا لا سبيل إلى نقله إلا بواسطة الرائي وحده، فهو غاشٌّ إذا كذب، فزعم أنه رأى ما لم يرَه أصلاً، أو أخفى بعض ما رأى، أو غيّر فيه أو بدّل، وهو مدّعٍ أنه خُصَّ بعلمٍ من أجزاء النبوة لم يُخصَّ به، فهو من أكذب الكاذبين، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَفْرَى الفِرَى أَنْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ»، أخرجه البخاري، قال بعض أهل العلم: (وجعل الكذب في المنام أعظم من الكذب في اليقظة؛ لأنَّه كذبٌ على الله ودعوى جزءٍ من أجزاء النبوة كذبًا)، وصِدقُ الإنسان فيما يحكي من رُآه ودقته في تفاصيلها يدلان على نقاء سريرته وتحاشيه عن التلبيس والغشّ؛ لأن تلك الحقائق لا سبيل إلى كشفها بواسطة مصدرٍ آخر، فمن تحاشى فيها الكذب، فهو مُخلص. الثانية: التشهّي في مجالات تطبيق الرؤى، وذلك بإقحامها في الأحكام الشرعية، والسياسة بين الراعي والرعية، وهذه أمورٌ لا تعمل فيها الرؤى؛ لأن الأحكام الشرعية والشؤون السياسية مستندةٌ إلى أحكامٍ شرعيةٍ وأنظمةٍ مرعيّة، وهي مستغنيةٌ عن أن ترفدها الرؤى بشيء من الأحكام، بل لا يسوغ بناء شيء منها على رؤيا منامية أصلاً، ومن هذا الباب زاغ كثيرٌ من أهل الطرق والأحزاب، أما أهل الطرق المبتدعة فسوَّقوا للعامة بعض الأحلام؛ ليروجوا بدعاً شرعيةً وعباداتٍ وكيفياتٍ مصطنعة، لم يقم عليها دليلٌ شرعيٌ، وأما الأحزاب ودعاة التفريق فعصا المنامات من أكثر ما يتوكؤون عليه، وينسجون من ذلك ما يحاولون به النيل من لحمة المجتمعات، وزعزعة الصفوف، والتشويش على الأنظمة، وأساليبهم في ذلك كثيرة، منها زعم أنه رئي كذا وكذا، ولا أساس لتلك الرؤيا، ومنها التشهي في التعبير بما يتماشى مع هواهم، وكذلك في تزيين ما يحاولون الترويج له، وهذا من الاستغلال الشائن، ولو تعاطاه الإنسان في العلوم الطبيعية لكان قبيحاً، فمن باب أولى لو تعاطاه في علمٍ يرتبط بالنبوة. الثالثة: التشهي فيمن تُحكى له، وفي تأثيرها، أما التشهي فيمن تُحكى له، فبعض الناس لا يريد أن يحكي رؤياه على ذي المعرفة والأمانة؛ لخوفه من أن يعبر له بما لا يهواه، فيبحث عمن لا يعرف عنه شيئاً ويذكر له رؤياه، وهو مخالفٌ لما في التوجيه النبوي، ففي حديث أبي هريرةَ رضي اللهُ تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم: (لاَ تُقَصُّ الرُّؤْيَا إِلَّا عَلَى عَالِمٍ، أَوْ نَاصِحٍ)، أخرجه الترمذيُّ وقال: حديث حسن صحيح، وأما التشهي في التأثير بها فيقع من مستغلي التعبير الجاهلين بقواعده؛ فبعضهم يتشهى في تعبيرها بما يؤثر على الرائي سلباً؛ ليتوغل به في متاهات الإشكالات، وأخطر ما يتعاطاه هؤلاء التأثير بذلك في علاقات كل من الزوجين بالآخر والعلاقات الأسريّة، ورغبة الإنسان في عمله، وغير ذلك من أنواع التدخل السافر في الشأن الخاصّ.