في ظل المتغيرات العالمية المتسارعة، لم تعد قضايا الطاقة مجرد تحديات تشغيلية، بل تحولت إلى مرتكزات سيادية، ومحركات رئيسة للنمو الاقتصادي المستدام. ويبرز مشروع الربط الكهربائي الخليجي كواحد من أعمدة هذا التحول، ليس بوصفه بنية تحتية تقنية فحسب، بل كمنصة صناعية وتجارية متكاملة تُمكن دول الخليج من إعادة تعريف مفهوم التعاون الإقليمي، وتحقيق استقرار الطاقة، وبناء سوق خليجي يعزز المكانة الاقتصادية للمملكة. فأمن الطاقة لا يتحقق فقط بوفرة الموارد، بل أيضاً بالقدرة على إدارتها وتصديرها بكفاءة، ومن هذا المنطلق، يمثل الربط الكهربائي أداة إستراتيجية تسهم في ترسيخ مكانة المملكة كمحور طاقي إقليمي قادر على تلبية احتياجات الداخل، وتصدير الفائض عبر بنية تحتية عابرة للحدود. حين تأسست هيئة الربط الكهربائي الخليجي عام 2001، ثم دخل المشروع حيّز التشغيل في مرحلته الأولى عام 2009، لم يكن الأمر مجرد ربط تقني بين شبكات 6 دول؛ بل كان نواة لصناعة إقليمية جديدة قادرة على خلق أسواق للكهرباء، وتنويع مصادر الدخل، وتحفيز استثمارات ضخمة في قطاع الطاقة. فمن خلال هذه الشبكة التي تربط المملكة بكل من الكويت، والبحرين، وقطر، والإمارات، وسلطنة عُمان، تُمكن المملكة من إدارة الفائض الكهربائي وتوجيهه لصالح الصناعات الوطنية، خاصة تلك التي تعتمد على توفر الكهرباء بشكل مستقر ومتنوع مثل الصناعات البتروكيميائية، ومصانع الحديد والألمنيوم، ومراكز البيانات. وفي الوقت ذاته، توفر هذه الشبكة غطاء احتياطياً يعزز موثوقية الشبكة المحلية، فالربط ليس مشروعاً طاقياً فقط، بل هو ضمان للاستقرار الصناعي، خصوصاً في أوقات الذروة أو عند تقلبات الإمدادات من الطاقة المتجددة، حيث تُمكِّن الشبكة من موازنة الأحمال بين الدول، والتعامل مع خصائص الطاقة الشمسية والرياح التي لا تتسم بالثبات، ما يعني أن المملكة باتت قادرة على إدماج الطاقة المتجددة في مزيجها الطاقي دون تعريض شبكتها للتذبذب، وهذا مهم جداً لخطط التوسع الصناعي في المدن الجديدة والمناطق الاقتصادية الخاصة. ويمتد هذا التوجه الإستراتيجي إقليمياً ليشمل مشروع الربط الكهربائي بين المملكة ومصر، بقدرة إجمالية تصل إلى 3000 ميغاواط، ينفذ على مرحلتين عبر خطوط نقل هوائية وكابلات بحرية تعبر البحر الأحمر ومحطات تحويل عالية الجهد؛ وأيضاً مشروع الربط الكهربائي بين المملكة والعراق بقدرة 1000 ميغاواط، تم تدشينه عام 2023م، ومذكرة تفاهم للربط الكهربائي بين المملكة والأردن، ولا شك أن عمليات الربط هذه ستسهم في تعزيز موثوقية الشبكات، ودعم استقرار منظومة الطاقة، وخلق سوق عربية للكهرباء تمهد لتكامل أوسع بين دول المنطقة، ما يتيح استغلال الفوائض الكهربائية وتوجيهها لصالح النمو الصناعي وخطط التحول الطاقي. إن ما تسعى له دول الخليج اليوم ليس ابتكاراً جديداً، بل هو مسار إستراتيجي سلكته كبرى الاقتصادات العالمية؛ فشبكة ENTSO-E الأوروبية تربط أكثر من 30 دولة وتتيح التداول اليومي للطاقة، وأثبتت جدواها في دمج الطاقة المتجددة وتخفيض التكاليف التشغيلية. وكذلك مشروع NorNed بين النرويج وهولندا، ومشروع Asian Super Grid بين الصين واليابان وكوريا والهند، كلها أمثلة على أن الربط الكهربائي أصبح صناعة قائمة بذاتها، تُبنى حولها تقنيات التخزين، وأنظمة التحكم الذكي، وأسواق التداول الفوري، وخلق سوق أكبر وأكثر سيولة للكهرباء، يخفض التكلفة على المستهلكين والشركات، ويحدّ من تقلبات الأسعار، ويزيد استغلال الطاقات المتجددة بدل هدرها. إن طريق التكامل الكهربائي لا يخلو من التحديات؛ فغياب سوق كهرباء موحد، وتفاوت الأنظمة التقنية، وارتفاع كلفة التوسعة، وغياب رؤية صناعية موحدة، كلها عقبات تعيق وتيرة التقدم، فالكهرباء ليست وسيلة إنارة فقط بل أداة إنتاج وصناعة وتصدير. وبما أن المملكة تقود مشروعات التحول الصناعي والطاقي في المنطقة والعالم، يجب أن تدفع بقوة نحو إنشاء سوق خليجي مشترك للكهرباء، يتيح تداولاً يومياً للطاقة، ويجعل من الكهرباء سلعة اقتصادية لا تقل أهمية عن النفط، وتحفيز الاستثمار في تقنيات الشبكات الذكية والتخزين الصناعي للطاقة، لتجاوز إشكالية عدم الاستقرار في مصادر الطاقة المتجددة، وتوحيد المعايير الفنية والتشريعية لضمان التشغيل المشترك، وخلق بيئة مواتية للقطاع الخاص للدخول في عمليات إنتاج وتبادل الطاقة، ففي عالم الصناعة لا تنهض المشروعات الكبرى على أكتاف الحكومات وحدها، بل تُبنى بتكامل الأدوار عبر الشراكة مع القطاع الخاص، الذي سيكون دوره حاسماً في خفض التكاليف التشغيلية، وتعظيم كفاءة الشبكة، وتوطين التقنية، بما يسهم في بناء منظومة كهربائية خليجية متكاملة ومستدامة، ويمكن أن أضيف أننا إذا أردنا لهذا المشروع أن يتحول من مجرد "ربط كهربائي" إلى "صناعة طاقة"، فلا بد من فتح السوق للقطاع الخاص، عبر نماذج شراكة مرنة، وتسهيلات تنظيمية، ومشروعات طويلة الأجل تضمن العائد وتحفّز التوسع، لتصبح الكهرباء مورداً اقتصادياً يعبر الحدود ويوحد المصالح مثل النفط. وكذلك ربط المشروع بمنصات صناعية كبرى، مثل المناطق الاقتصادية الخاصة ومجمعات الصناعات الثقيلة، لضمان وجود طلب صناعي حقيقي مما يرفع من جدوى المشروع. ما نحتاجه اليوم هو أن نرتقي بمشروع الربط الكهربائي الخليجي من مستوى "البنية التحتية" إلى مستوى السيادة الصناعية، فكما نجحنا في تصدير النفط لعقود، نحن اليوم على مشارف حقبة جديدة نصدر فيها الكهرباء المتجددة والصناعات المعتمدة عليها. فالمملكة لا تكتفي بأن تكون منتجة للطاقة، بل تسير بخطى ثابتة نحو أن تكون مصنعاً ومُصدّراً للطاقة المتقدمة، وراعية لتكامل صناعي خليجي يُعيد رسم خارطة القوى الاقتصادية في المنطقة.