نسيمة ألقت بنفسها من على البرج المحاذي للجامعة بعد اطلاعها على نتائج الامتحان"،"أعباء عائلته وجحيم البطالة دفعتا ياسين للانتحار". هاتان عينتان من المأساة التي أصبح الجزائريون يعيشونها ويرددونها في السنوات الأخيرة، وهم يقرأون في الصحف باستمرار، ويتداولون في مجالسهم، حكايات عشرات الأشخاص الذين قرروا أن يختصروا الحياة، ومعظمهم شباب في مقتبل العمر. واستناداً الى إحصاءات كشف عنها أخيراً الدكتور مصطفى خياطي رئيس جمعية فورام التي تعنى بالمشاكل الاجتماعية، ارتفعت نسبة حالات الانتحار في الجزائر من 0.94 في المئة لكل 100 ألف شخص العام 1993، لتبلغ 2.25 في المئة للعدد نفسه من السكان عام 2003. وسجلت 527 حال انتحار عند الرجال، في مقابل 172 عند النساء، بيد أن الجنس اللطيف هو الأكثر إقداماً على الانتحار، حيث حاولت 300 امرأة الانتحار عام 2000 ، في مقابل 187 رجلاً في العام نفسه. وتشير الإحصاءات التي كشف عنها على هامش أيام دراسية نظمتها الجمعية المذكورة في العاصمة الجزائر أخيراً، إلى أن نسبة الإقدام على الانتحار عند الشباب مرتفعة جداً، حيث أن 62 في المئة من المنتحرين تراوح أعمارهم بين 18 و48 عاماً، في مقابل نسبة 27 في المئة تراوح أعمارهم ما بين 49 عاماً وما فوق. علماً أن نسبة الشباب الذين أقدموا على الانتحار وهم في سن 18 عاماً 10 في المئة. هذه الأرقام التي فجعت بعضاً من الجزائريين، لم تباغت آخرين ممن يعتبرون أن الظاهرة كانت دوماً قائمة، على رغم أنها تفشت منذ نهاية التسعينات، وهو الرأي الذي يقول به محمد 25 عاماً، الطالب في كلية الإعلام في العاصمة:"ظاهرة الانتحار كانت دائماً قائمة، لكن تناولها يعد من التابوهات في معظم الدول العربية بسبب التعتيم الإعلامي من جهة، والتقاليد التي جعلت كشف الغطاء عنها من المحظورات... ربما من حسن حظنا في الجزائر، أن الانفتاح الإعلامي الذي ظهر منذ نهاية التسعينات، سمح للصحافة الخاصة بكشف النقاب عن هذه الظاهرة التي لا تكاد تخلو منها الصحف يومياً، في شكل جعل البعض يعتقد بأنها تفشت في شكل كبير، لكنها في الواقع كانت موجودة من قبل". وفي المقابل، يقول رفيق 23 عاماً الطالب بمعهد علم الاجتماع بجامعة بوزريعة"لا ينبغي تسطيح الأمور، فظاهرة الانتحار تفشت بالفعل في السنوات الأخيرة مع تراكم الأزمات التي يعيشها المجتمع الجزائري، فليس من السهل أبداً ما قاسيناه لما يزيد من عقد كامل مع ألوية الإرهاب. أصبحنا نطالع في الصحف ونسمع اعترافات لكثير من الجزائريين، بما فيهم أعوان الأمن الذين أقدموا على الانتحار لأنهم لم يتحملوا هول ما عايشوه في تلك الحقبة السوداء التي واجهوا فيها الإرهابيين مباشرة". ويفسر اختصاصي نفساني وباحث في مخبر علم النفس بالجزائر الدكتور نصير بن حالة، سبب إقدام الرجال على الانتحار أكثر من النساء بقوله:"الرجال نفسيتهم هشّة مقارنة بالنساء، لأن المجتمع الجزائري يطلب من الشاب الذكر أكثر مما يطلبه من الأنثى، فالبنت لا يطلب منها أكثر من أن تتزوج وتستقر في حياتها، وحينما تفشل في ذلك، أو تكتشف بعد زواجها صعوبة المسؤولية في سن مبكرة، أو عدم رضاها على الزوج، فقد يكون الانتحار سبيلاً للخلاص عندها، بينما الذكر مطلوب منه أن يتحمل مسؤوليات كثيرة، وينظر إليه كرجل منذ أن يبلغ سن 18 عاماً". ويتذكر بأسى حالة شاب من أصل ريفي لم يتجاوز 35 عاماً، أجبرته الظروف على الانتقال إلى العاصمة لضمان قوت عائلته، ومع مرور الزمن أصبح والداً لثلاثة أطفال لم ينجحوا في حياتهم، وأحدهم فضل الهجرة. وقد حاول المعني الانتحار مرتين، انتهى به الأمر في إحداهما داخل قاعة الإنعاش 12 يوماً قبل أن يخرج بالمهدئات، وعلى رغم أنه عاد للعمل وأشرف بن حالة على متابعته، إلا أن فكرة الانتحار كانت قوية عنده، ولم يتقبل مواجهة المجتمع بسبب كبريائه، وجاء خبر هروب ابنته من البيت ليحطم نفسيته ويقرر هذه المرة الانتحار تحت عجلة القطار، وكأنه يقول إنني لن أعود هذه المرة! وفي نظر الأستاذ ناصر جابي، الباحث في علم الاجتماع"إن كل شيء في الجزائر يدعو للانتحار، فالاكتظاظ الكثيف لحركة المرور وحالة القلق التي تلازم الجزائريين تدعو للانتحار، بل إنني أسأل لماذا لا ينتحر الجزائريون..؟". في حين يرد بن حالة على هذا الطرح بقوله:"غير صحيح أن الظروف الاجتماعية هي الأساس من الناحية النفسانية لتبرير ظاهرة الانتحار وإن كان عاملاً مؤهلاً لذلك، فالشاب الهش نفسانياً قد لا يقبل أي عمل كان على خلاف الأنثى، فهو يرفض عملاً دون رتبته، أو في ظروف لا يقبلها، كالعمل في الصحراء الجزائرية مثلاً". وعن انتشار الظاهرة في أوساط الشباب خاصة، استطرد جابي قائلاً:"إضافة إلى مشكلة البطالة القاتمة، والفراغ الذي يعانيه الشباب، فهناك أزمة جنسية خطيرة تعانيها هذه الشريحة، فمتوسط عمر الزواج عند الذكر هو 32 عاماً، في مقابل 28 عاماً بالنسبة الى الأنثى. إنها بالفعل أزمة جنسية رهيبة يعيشها الشباب الذي تعوقه الظروف الاجتماعية عن الزواج وتحقيق حاجاته الجنسية، وهذه إحدى أهم أسباب إقدامهم على الانتحار، وكذلك الأمر بالنسبة الى الكثير من الشباب الذين التحقوا بصفوف الأمن في زمن الإرهاب، ونسمع اليوم أخبار انتحارهم لهول ما عايشوه في تلك الفترة". لقد اعتاد الجزائريون في السنوات الأخيرة، أن يفتحوا عيونهم كل صباح على أخبار الانتحار التي تهز منطقة القبائل التي عاشت أحداثاً دموية في السنتين الأخيرتين بسبب المواجهات التي حدثت بين شباب المنطقة وقوات الأمن وخلفت عشرات القتلى ومئات الجرحى، معظمهم من الشباب. وذهب كثر إلى القول إن المنطقة تعرف أكثر حالات الانتحار بسبب عزلتها وتفاقم مشكلات سكانها، حيث تشير دراسة الدكتور مصطفى خياطي إلى أن أكثر حالات الانتحار عرفتها ولايات تيزي وزو وبجاية والبويرة، التي تعد معقل سكان القبائل الأمازيغ القاطنين شرق العاصمة، لتأتي بعدها ولايات تلمسانوالجزائر العاصمة، وباتنة، وسطيف... وهكذا دواليك، بينما لا تشير الدراسات إلى انتشار الظاهرة في ولايات الجنوب، ربما بسبب الكثافة السكانية التي تعرفها مناطق الشمال خاصة، مقارنة بالهدوء الذي يميز ولايات الجنوب، حتى وإن كانت ظروف معيشة سكانها لا تقل حدة. وتشير بعض المصادر، إلى أن مصالح الأمن الجزائرية سجلت 329 حالة انتحار في الأشهر الأولى من عام 2004، من بينهم 35 شخصاً في منطقة القبائل فقط، 15 في المئة من تلك الحالات كانت ناجمة عن إصابة أصحابها بالانهيار العصبي. ومن الصعوبة بمكان أن تحصل على اعترافات من قبل شباب حاولوا الانتحار وأنقذتهم الاستعجالات الطبية، على كثرة هؤلاء الذين تنقلهم سيارات الإسعاف على جناح السرعة في شكل يومي تقريباً إلى مستشفيات مصطفى باشا ومايو بالعاصمة، أو مستشفى دريد حسين للأمراض العقلية. وربما يفضل كثر أن ينجحوا في انتحارهم، على إنقاذهم، ثم يضطرون بعد ذلك لمواجهة كلام الناس الذين يستفسرونهم عن سر إقدامهم على إنهاء حياتهم. ولطالما انتشرت أخبار هؤلاء الأشخاص الذين أقدموا على رمي أنفسهم من على جسر مدينة قسنطينة شرق الجزائر، أو من على شرفات العمارات، وفيما يلجأ البعض لخنق أنفسهم معلقين من أغصان الشجر لإنهاء حياتهم في صور مأسوية، فإن معظم المنتحرين يفضلون تناول أقراص الأدوية ليزهقوا روحهم. ومن الوقائع التي تحمل شيئاً من الطرافة والأسى في الوقت نفسه، إقبال عدد هائل من الشباب الجزائريين خلال الصيف الماضي على اقتناء شريط لأغنية الراي بعنوان:"جوزفين"للمغني رضا الطالياني. وقد احتل الكاسيت صدارة المبيعات في السوق، وأصبحت الأغنية على لسان الشباب والأطفال، بل وحتى الكبار، وسمع عنها السياسيون أيضاً، ويروي صاحب الأغنية كيف أنه يفكر أحياناً في الانتحار تحت سكة الحديد، بسبب محنته مع الفتاة الفرنسية"جوزفين"التي أحبها، قبل أن يعود ويطلب منها الطلاق ليعود للاستقرار في وطنه. ولا يزال الحديث عن الانتحار"عيباً"في ذهنية معظم الجزائريين فالمنتحر"كافر"بحسب علماء الدين ولا يحق لمنتحر أن يدفن في مقابر المسلمين. في حين يشير آخرون إلى الانتشار الهائل للفضائيات، التي تجعل معظم هؤلاء الشباب يقطعون الدروب إلى وطن آخر، بحثاً عن حياة أفضل، بينما يختار البعض اختصار مسافة العمر.