Anna Reid ed.. Lessons from Africa's Success Stories. دروس من قصص النجاح في أفريقيا. Policy Exchange, London. 2004. 114 pages. ... إذاً لننظر جنوباً. فلعل ثمة ما يفيدنا، نحن العرب، إن طالعنا بعض قصص نجاح دول أفريقية غالبت الحروب الأهلية والإثنية، وتجاوزت مآزق الإنسداد الديموقراطي، ونجحت في موضعة مجتمعاتها على مسارات النهوض. فإن كان لدينا "فوبيا إستغرابية" تمنعنا من الإستفادة من النموذج الغربي في التنمية والديموقراطية، فالعالم الآن يقدم نماذج أخرى هندية ويابانية ولاتينية، والآن: أفريقية. تبقى المسؤولية مناطة بمن يستفيد، لكن المفارقة في النموذج الأفريقي هي وجود نظرة عربية مستبطنة إزدرائية تجاه أفريقيا والأفارقة تتوافق مع نظرة مشابهة تعاني منها القارة السوداء في عيون الكثيرين من عالم اليوم. فأفريقيا هي قارة الفشل التاريخي حيث الحروب الأهلية والإثنية الطاحنة تتناسل بلا إنتهاء، والفقر والمجاعة يأكلان الأخضر واليابس، وفساد الحكام والنخب المسيطرة يزيد فاقة البلدان والمجتمعات وينهي ثرواتها المحدودة. وفي أكثر من مطالعة عن الوضع الأفريقي يكون الإستنتاج شبه العام أنها القارة المستحيلة التي لا يمكن أن تنهض. المهم هنا، وكما يطرح الكتاب الصغير الحجم والباهر في معلوماته، هو وجود وجه آخر لتلك الصورة القاتمة علينا نحن العرب تحديداً أن نتأمل فيه ونتعلم منه الدروس. هذا الوجه يقول إنه برغم كل الدماء التي سُفكت في الحروب الأهلية الأفريقية، والفقر والكوارث سواء الطبيعية أو التي صنعها الإنسان، فإن عدداً من بلدان القارة ينهض وينمو وتتقدم بشكل لافت للإنتباه. بعضها واجه صراعات إبادة عرقية أهلية، كما في رواندا، سقط فيها أكثر من ثمانمائة ألف ضحية. ومع ذلك إستطاع البلد أن يجد صيغة ينهض بها من ركام الحرب، ويقطع أشواطاً من المصالحة الأهلية ويستفيد من المساعدات الدولية ليخفض مستويات الفقر إلى حدود مشجعة. وتقول تفاصيل الصورة إن معدل النمو الإقتصادي في دول جنوب الصحراء خلال عامي 1995 و 1996 تراوح بين 8،3 و6،4 في المئة، وهو أعلى من معدل النمو الإقتصادي العالمي آنذاك. وفي بعض البلدان الأفريقية هناك ديموقراطيات تشتغل بشكل يجعلنا نحن العرب نستحي. وهناك حكام ورؤساء يخوضون إنتخابات فيخسرون فيتنحّون كما حصل مع دانيال أراب موي في كينيا عام 2002، ومعارضات مسلحة شرسة تلقي السلاح وتتوافق مع النظام على صيغة مشاركة في الحكم أنغولا وموزامبيق وغير بلد، وهناك تجارة تتقدم وأوضاع إقتصادية تتحسن تدريجاً، ورغبة بالنهوض تدعمها إرادة سياسية لمجموعة من البلدان القيادية التي تريد فعلاً تغيير وجه القارة، في مقدمها جنوب أفريقيا ونيجيريا. وعلى وجه الخصوص تلعب جنوب أفريقيا دور القائد الإقليمي الذي يؤمن بأن نهضة الإقليم والقارة كلها نهضة متكاملة تعضد بعضها البعض، إذ لم يعد هناك مكان لبلد يؤمن تنميته الخاصة وسط جيران فقراء لأن فقرهم سيفيض عليه ويدمر نهضته آجلا أم عاجلاً. جنوب أفريقيا التي تنحى أسطورتها الحية نيلسون مانديلا عن الحكم، قدمت للأفارقة العرب وللعالم الثالث نموذجا جديداً في التسيس حيث لا يتمسك الحاكم بالحكم حتى لو كان في عظمة مانديلا الذي لا يدانيه كل الحكام مجموعين. وقصة النجاح الأفريقي في بعض الدول، كبوتسوانا ورواندا وموزامبيق، ليست كاملة بل نسبية، الأمر الذي لا يطعن فيها بقدر ما يجعلها درساً عملياً، لا طوبوياً، يمكن الإستفادة منه. ففي تلك البلدان ما زالت هناك قائمة لا تنتهي من المشاكل والمعضلات التي قد تعود وتعصف بها إن لم تستمر الحكمة سائدة في تسيير الأوضاع. لكن يبقى الدرس الأفريقي الكبير يقول لنا إن النهوض ممكن حتى من دون ثروات، وان الإحباط الذي يلفنا في المنطقة ويجعل نظرتنا سوداوية ليس قدرا محتوما بل يمكن التخلص منه. ولنتأمل عن قرب في بعض تفاصيل الصورة الأفريقية في البلدان الثلاثة المذكورة. ففي بوتسوانا التي استقلت عام 1966، يقارب معدل دخل الفرد حالياً عشرة آلاف دولار، وهو معدل يزيد نظيره في البلدان العربية كلها ما عدا أربعة أو خمسة بلدان خليجية. وخلال حقبة الثمانينات بلغ متوسط معدل النمو الإقتصادي 11 في المئة. صحيح أن الماس يشكل العمود الفقري للتنمية الإقتصادية، لكن التقارير الدولية تشير إلى أن بوتسوانا تتميز بغياب الفساد المالي على مستوى النخبة الحاكمة، فيما هناك توزيع حكيم وعادل للثروة. وهي إذ تواجه معدلات مرتفعة ومخيفة من الأيدز، إلا أنها البلد الأفريقي الوحيد الذي لا يتلقى مساعدات مالية من الخارج، بل إن عضويتها في البنك الدولي وصندوق النقد عضوية دائنة وليست مدينة أي تعطي ولا تأخذ!. ونظام الحكم في البلاد رئاسي معتمد على توافقات ناجحة مع القبائل الرئيسية وبينها، مدارها احترام الدولة للقبائل وتخلي القبائل عن سلطات واسعة للدولة إعترافاً بها وبأولويتها. في موزامبيق تأخذ قصة النجاح منحى آخر: حرب أهلية طاحنة استمرت أكثر من عقد ونصف العقد بين الحكومة بقيادة حركة فريليمو المدعومة سوفياتياً وحركة المعارضة رينامو المدعومة برتغالياً، وقد انتهت بإتفاقية سلام وقعت في روما سنة 1992، وجاءت ولصالح الحزب الحاكم عملياً. وهذا الأخير يعمل بقضه وقضيضه على مماهاة مصلحته في البقاء في السلطة مع تحقيق إنجازات وطنية على صعيد الإقتصاد والتنمية والإستقرار السياسي. وعلى مدار إثنتي عشرة سنة، وهي حقبة ما بعد الحرب الأهلية، حققت موزامبيق معدل نمو إقتصادي متواصل يحوم حول نسبة 9 في المئة، وهو مثير للدهشة بالمعايير الأفريقية، وحتى العالمية. هذا النمو أفاد القطاعات الإجتماعية والشعبية وقلص فجوات الفقر، رغم معاناة البلد من إختلالات هامة، كعدم التوازن في تحقيق النمو مناطقياً، وتركيز رأس المال في نطاقات ضيقة، وإنتشار الفساد في النخبة الحاكمة. لكن كل ذلك لا يحجب أن معدل دخل الفرد في أقل من عقد ازداد عن الضعفين من 90 دولاراً عام 1994 إلى 214 عام 2002. والدرس الإقتصادي الأهم في قصة موزامبيق أن عجلة النهوض كانت محلية وليست مرتكزة على البيئة الدولية. فالقطاعات المحلية واللاعبون المحليون هم الذي وفروا الظروف ثم استثمروها لنقل بلدهم خطوات إلى الأمام. أما سياسياً، فكان إتفاق السلام في روما بداية عهد جديد، تبعه وضع دستور جديد للبلاد، ثم في 1994 أجريت إنتخابات عامة اعتبرها المراقبون الدوليون حرة ونزيهة فاز بها الحزب الحاكم بغالبية واضحة، ومعها فتحت صفحة جديدة من التسيس الموزامبيقي أحالت العنف والحرب الأهلية إلى الماضي. وقد فازت حركة رينامو المعارضة في خمس ولايات من أصل إحدى عشر ولاية وحققت نتائج لم تكن متوقعة رغم خسارتها. وبعيداً عن التفاصيل، فإن ما يهمنا هو درس تحول المعارضة المسلحة إلى حزب سياسي يمكن أن يمارس السياسة السلمية. فدرس الإصلاح السياسي هو ما يمكننا أن نتعلمه عملياً من أفريقيا، كما من الهند والهنود الذين هم أيضاً محط إزدراء عربي مخجل. فهناك يواجه الناس المشكلات بشجاعة ليحلوها، لا ليهربوا منها.