في كل مرحلة من حياتنا، نصادف مواقف تلامس أعماقنا وتختبر صبرنا. نظرة ازدراء من موظف متغطرس، كلمة فظة من غريب لا يعرفك، أو خذلان من قريب كنت تظنه عضدًا وسندًا. وفي كل مرة، يتسلل سؤال مرير إلى أعماقنا: هل أردّ بالمثل؟ هل أنزل إلى مستواهم لأردّ الصاع صاعين؟ أم أتماسك وأحتفظ برقيّ أخلاقي؟ الكثيرون يختارون الصمت المؤقت، لكنهم يدّخرون الغضب، حتى إذا ما سنحت الفرصة، ردّوا بأضعاف ما تلقّوه. وهنا، دون أن يشعروا، يكونون قد انجرفوا إلى الساحة ذاتها، حيث لا تنتهي المعارك، ولا يخرج منها أحد منتصرًا. لقد استُدرجوا ببراعة إلى "ملعب الآخرين القذر"، ونسوا أن المعركة الأولى هي مع الذات، لا مع الآخر. الحقيقة أن الأخلاق لا تُقاس بردّات الفعل، بل تُبنى على اختيارات واعية. إنها قرار متجدد، يُتخذ كل صباح، بل كل لحظة. أن تظلّ نقي السريرة، هادئًا في ردّك، رفيعًا في تعاملك، لا يعني أنك ضعيف أو مغلوب، بل يعني أنك أقوى بكثير ممن يفقدون توازنهم لأقل كلمة. من السهل أن تثور، أن تسب، أن تُعامِل الناس بما فيهم من سواد، لا بما فيك من صفاء. ولكن التحدي الحقيقي أن تختار الصمت النبيل، أو الردّ بكلمة طيّبة، أو نظرة تُطفئ نار الخصام. أن تبقي قلبك نظيفًا في عالم تعلو فيه أصوات الشتائم، فهذه بطولة لا يُجيدها إلا الأقوياء. الناس- بقصد أو من غير قصد- يختبرونك. بعضهم يتضايق من صفائك ونبل أخلاقك، لأنه يعكس عيوبه. يزعجه نقاؤك، لأنه يذكّره بما لا يملكه. وإن سمحت له أن يسحبك إلى مستنقعه، فقد خسرْت مرتين: خسرْت تفرّدك، وخسرْت أثر وجودك. تأمّل في سيرة الأنبياء، كيف طاردهم الأذى، وانهالت عليهم الشتائم، وتكالبت عليهم الأقوام، ومع ذلك ظلّوا أنقياء القلوب، ثابتين على الحق، متعففين عن رد الإساءة بمثلها. ولنا في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسوة عظيمة، حين واجه من أساء إليه بالعفو والحكمة والصبر. حين تصرّ على أن تحافظ على أخلاقك الطيّبة في بيئة ملوّثة بالأنانية والعدوان، فأنت لا تُجامل، بل تُعلن مبدأ. تقول للناس: أنا لا أتصرّف وفق ردودكم، بل وفق قيمي. وهذا في حد ذاته نصرٌ داخلي، وربحٌ لا يُقاس بالعين المجردة، بل يُحسّ في احترام الذات وراحة الضمير. وتذكّر دائمًا، أنك لست مرآة لقبح الآخرين، بل مرآة لنُبلك وسموّ نفسك. لا تسمح لأحد أن يسحبك إلى ملعبه المليء بالوحل، بل اصنع لنفسك ملعبًا نظيفًا، حتى وإن كنت وحيدًا فيه. ألا تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"؟ إنها ليست مسألة ردّ، بل مسألة تحكّم وسيادة داخلية.