ظللت وقتاً غير قليل من حياتي الأكاديمية نافراً من الكتابة للصحافة الأدبية والثقافية، خصوصاً اليوميّ والأسبوعي منها، متصوراً أن الإسهام الحقيقي للأستاذ الجامعي هو الأبحاث المعمقة التي لا تصلح لغتها للجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية، والكتب الأصيلة التي تحتاج إلى سنوات من التفرغ الكامل للاستقصاء والاستنباط والتدقيق والتنقيح والمراجعة التي لا تفلت شيئاً. وكنت أضع الترجمة إلى جانب البحوث الأصيلة، إدراكاً مني للدور الذي تقوم به الترجمة الجادة في فتح آفاق واعدة في المجالات البحثية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، ووعياً بقيمة الإنجاز الذي اقترنت به أسماء من طراز سليمان البستاني مترجم "إلىاذة" هوميروس، وحسن عثمان مترجم "الكوميديا الإلهية" لدانتي، ومحمد مصطفى بدوي مترجم "مبادئ النقد الأدبي" لريتشاردز، وإحسان عباس مترجم "موبي ديك" لهرمان ملفيل، وإبراهيم شتا مترجم "مثنوي" لجلال الدين الرومي. وما أكثر ما كنت أقول لنفسي إن هذه الإنجازات وحدها هي التي تبقى للأستاذ الجامعي في حساب العلم أو ميزانه الذي لا يحفل إلا بالإسهامات الكبيرة والجليلة. ولا أزال أعتقد أن حضور الأستاذ الجامعي الحقيقي لا معنى له من غير الإبداع الدائم الذي يتجسّد في بحوثه المعمقة وكتبه الكاشفة وترجماته المؤصِّلة، بل لا أزال أرى أن علامة الأستاذية الجامعية هي في درجة الابتكار المقرون بالاستمرار الذي يتواصل به الجهد الخلاّق للأستاذ الجامعي الذي أصبح أندر من الكبريت الأحمر في هذا الزمان الذي اختلطت فيه الأشياء، وتنازلت فيه الجامعات عن الكثير من قيمها الفاعلة ومبادئها الدافعة. ولولا ما بقي من جيوب للمقاومة العلمية المتناثرة في الجامعات العربية من المحيط إلى الخليج، والنماذج الاستثنائية من الأساتذة الذين يصونون للعلم حقوقه، لبارت سوق العلوم الأصيلة نهائياً، واختفى المعنى والمغزى عن الجهود الجامعية التي لا تزال تواصل العمل ضد التيار المتزايد من جهالة الجهلاء وفهاهة الأفهاء. ويبدو أن توتري الباكر في الحرص على القيم الجامعية، والخوف على نفسي من الابتعاد عنها، أسهم إسهاماً كبيراً في نفوري من كتابة المقالات السريعة في الجرائد والمجلات، وتصورها بوصفها نوعاً من التسالي أو قزقزة اللب التي لا تقدّم نفعاً بالمعنى الأكاديمي الضيق والحدِّي. ولكن نضج الوعي الذي تكسبه الممارسة مرونة وانفتاحاً وإدراكاً للسياقات المعقدة المتصارعة التي تنطوي علىها الحياة الثقافية جعلني أراجع نفسي في ما ظللت مؤمناً به لوقت طويل، وأدرك شيئاً فشيئاً أن الأستاذية الحقيقية يمكن أن تظل قائمة حتى في كتابة صفحة واحدة تنشرها صحيفة يومية، أو مقال قصير تنشره مجلة أسبوعية، فالقيمة العلمية لا معيار كمياً لها، ولا تقاس بالكتاب وحده على رغم أهميته. ولم يكن فيما انتهيت إلىه تنازلاً عن المبادئ الجامعية التي انطويت علىها منذ صباي الباكر، وإنما إضافة إلى التصورات التي آمنت بها، وتوسيع لها بما يؤكد تعدد أشكال الأداء الأكاديمي الذي يجمع بين الكتاب والبحث والمقال، شريطة أن يظل المقال في المدار الذي يؤرق الباحث الأكاديمي، ويدفعه إلى أن يشرك غيره من الجمهور الأوسع في الاهتمام بقضاياه. وقد أكسبني المزيد من المرونة العقلية عملي في مجلة "فصول" التي كانت أولى الدوريات العربية المتخصصة في النقد الأدبي، فاكتسبت - عملياً، فوق ما كان عندي نظرياً - عادة احترام الاختلاف، وتقدير الأبحاث التي وافقت على نشرها، حتى لو لم أكن أؤمن بسلامة توجهها النقدي، أو منطلق حجاجها الفكري، كما اكتسبت وعياً متزايداً بأهمية المتابعة الحيوية للمشاهد المتدافعة في الواقع الأدبي، وتعلمت تقدير نوعين من الكتابة. كتابة الأبحاث التي تتأنى إزاء موضوعها، باذلة جهدها في الاستقصاء والتحليل والاستنباط، وكتابة المتابعات التي تلاحق الجديد في تدافعه، كاشفة على سبيل الإجمال عن أبرز ملامحه الدالة، تاركة التفصيل والتعميق للبحوث. وأصبحت أوافق الشاعر صلاح عبدالصبور، حين كان يشرف على الهيئة المصرية العامة للكتاب التي كانت - ولا تزال - تصدر مجلة "فصول"، على أن طرائق كتابة النقد الأدبي لا بد من أن تتعدد وتتنوع وتتناغم في تعددها وتنوعها، وذلك على نحو يجعلها شبيهة بالفرقة الموسيقية التي تتعدد آلاتها، وتتباين نغمات كل منها على حدة، لكنها تتناغم في النهاية بما يؤكد وحدة اللحن الذي تؤديه واتساقه. ومن هذا المنطلق كنت أوافق صلاح عبدالصبور على تشبيهاته الحربية التي كان يستخدمها أحياناً لوصف الصحافة الأدبية والثقافية، فقد كان يشبّه مقال المتابعة في الصحيفة اليومية أو الأسبوعية بطلقات البندقية اليقظة لكل تحرك مهما صغر، ويشبّه المقال النقدي في المجلة الشهرية بالمدفع الصغير المحمول القادر على الحركة والانتقال في مدى المتابعة السريعة وحيويتها، ويشبّه الدراسة في المجلة الفصلية أو الدورية ربع السنوية بالمدفعية الثقيلة التي لا غنى عنها لتمهيد الطريق، وتوسيع الآفاق، والوصول إلى الأهداف الاستراتيجية. وكما اقتنعت بأهمية التناغم بين هذه الأسلحة الحربية في العمل، داخل خطة أو استراتيجية واحدة، اقتنعت بأهمية الدور الذي تقوم به المدفعية الثقيلة التي كانت تنقص الحركة الثقافية في مجال النقد الأدبي. ولذلك أصدرنا بفضل صلاح عبدالصبور، وتحت رعايته، مجلة "فصول" التي أحدثت من التأثير والحضور ما دفع العالم العربي كله إلى الاعتراف بأهميتها. ولم نغفل مقال المتابعة القصير في "فصول"، فقد جعلنا "الواقع الأدبي" قسمها الأخير الذي يتناول بالمتابعة الحيوية الأعمال الأدبية فور صدورها، تعريفاً بها وإبرازاً لحضورها الواعد أو غير الواعد. وجمعنا بذلك بين المنهجية الصارمة في البحوث الموثقة التي يتضمنها الملف الأساسي للعدد، تنظيراً أو تطبيقاً، وكان لكل عدد موضوعه الخاص، والحيوية المتدفقة للمتابعة الآنية في قسم الواقع الأدبي الذي أردنا به رصد حركة الواقع الأدبي في تدافعها المستمر على امتداد العالم العربي. وقد جعلتني تجربة "فصول" أعيد النظر في الدور الذي لعبه المقال الصحافي في كتابات الرواد من أمثال العقاد والمازني وطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهم، فأغلب كتبهم مقالات نشرت في صحف. وقد جعل العقاد وطه حسين من بعض العناوين الثابتة التي كتب تحتها في هذه الصحيفة أو تلك عناوين بعض كتبهم الشهيرة. ومثال ذلك كتاب "خلاصة اليومية" للعقاد الذي لم يكن - بالقطع - في شهرة "حديث الأربعاء" لطه حسين، سواء بأجزائه المتعددة، أو بالزوابع التي أثارتها مقالاته. وقد لا يعرف الكثيرون أن طه حسين كان يكتب مقالين كل أسبوع في جريدة "السياسة". الأول بعنوان "حديث الأحد" وكان مخصصاً لعرض الأعمال الإبداعية - وبخاصة المسرحية - في الأدب الغربي بوجه عام، والفرنسي بوجه خاص. أما "حديث الأربعاء" فكان مخصصاً لدراسة الشعر العربي عبر عصوره، ابتداء من العصر الجاهلي وانتهاء بالعصر الحديث. وقد استلهم طه حسين عنواني "حديث الأحد" و"حديث الأربعاء" من الناقد الفرنسي الشهير سانت بيف الذي اعتاد أن يطلق عنوان "أحاديث الإثنين" على مقالاته التي تحولت إلى مجلدات تحمل العنوان نفسه. ومن المؤكد أن هذا النوع من النقد الأدبي الذي أخذ شكل المقال الصحافي قد أدّى وظائف متعددة في كتابات الرواد، فهو قد أسهم في التعريف بالأفكار الجديدة وإشاعتها بين الجمهور، وواجه الهجوم الذي انصب على هذه الأفكار من التيارات الجامدة، وردّ هجومها على نحرها، وأبرز تهافت القديم في مواجهة الجديد الصاعد. ولذلك كان هذا النوع من المقالات أداة ثرية ومجالاً غنياً للمعارك الأدبية والثقافية التي احتدمت بين القدماء والمحدثين من ناحية، والمحدثين والمحدثين من ناحية موازية، الأمر الذي جعله يسهم إسهاماً قوياً في إشاعة مناخ من الحيوية الخصبة في الحياة الثقافية، ويكون له أعمق الأثر في تعلىم الأجيال الجديدة طرائق الحوار والجدل المستخدمة في معارك الرواد التي حرّكت المياه الساكنة، وأزالت ركودها. وأخيراً وليس آخراً، قام هذا النوع من المقال النقدي أو الثقافي بالتقريب بين قضايا الطليعة وهموم الجماهير القارئة، وأزاح ما أطلق علىه البعض "البرج العاجي" الذي اقترن بمعاني العزلة والتعالي على الجماهير، وذلك بهدف جعل موضوعات الثقافة في مجالاتها المختلفة، مهما دقّت أو تعقدت أو تجاسرت، زاداً متاحاً لجماهير القراء التي حلم طه حسين من أجلها بأن تكون الثقافة كالماء والهواء، حقاً لكل مواطن. وقد دفعني هذا الإدراك الجديد إلى مجاوزة المعنى الضيق للأكاديمية إلى المعنى الأوسع، وذلك في سياق من المتغيرات الثقافية القومية التي شهدت أشكالاً خطرة من الردة التي هددت بالدمار كل ما ورثناه من إنجازات نفخر بها في تاريخنا الثقافي المجيد، ولذلك كان لا بد من دخول معركة الدفاع عن ثقافة الاستنارة، وخوض تجربة الكتابة للصحافة، ولكن في الدائرة التي تبدأ من النقد الأدبي وتنتهي إلىه مهما تباعدت عنه، خصوصاً بعد أن غزت النظرية الثقافية النقد الأدبي، وتحول النقد الأدبي نفسه إلى نقد ثقافي، ولم يعد ممكنا للنقد الأدبي أن ينغلق على بنية أدبية أو فكرية، مهما كانت الدوافع المنهجية، بعيداً عن تيارات الحياة المتدافعة والمتصارعة حول الناقد، وفي داخل الناقد، فكرياً وسياسياً وثقافياً. وبعد مقالات "إبداع" التنويرية كما شاء البعض تسميتها، كانت كتابتي الأسبوعية في جريدة "الحياة" ابتداء من شهر آيار مايو 1992 إلى اليوم، تجسيداً للوعي النقدي، أو الوعي الثقافي الذي انتهيت إلىه، كما كانت كتاباتي الأسبوعية في جريدة "البيان" الإماراتية على امتداد أربع سنوات، ما بين عامي 1998-2002، فضلاً عن مقالات مجلة "العربي" الكويتية، وأخيراً "الأهرام" المصرية، تجسيداً للوعي نفسه، ومحاولة للوصول بقضايا الثقافة بعامة، والأدب بخاصة، إلى أوسع دائرة من القراء، تحقيقاً لمبادئ الاستنارة التي كان لا بد من إعادة تأكيدها والإضافة إلىها بما يتناسب ومتغيرات القرية الكونية التي أصبحنا نعيش فيها. ولا تزال هذه الكتابات محاولة مستمرة للجمع بين الثقافي والأدبي من منظور العقل الذي لا يتردد في مساءلة موضوعاته، مهما كانت، ويسعى إلى المعرفة المجددة أينما وجدت، ويحترم حق الاختلاف الإبداعي والفكري ما ظل المختلف منطوياً على احترام المغاير له، ويعمل من أجل ثقافة الابتداع التي هي الأصل في ثقافة التقدم، أياً كان المسمى السياسي أو الفكري للنظام الذي يحقق هذا التقدم ولا يتوقف عن تجسيد إمكاناته التي لا نهاية لها أو حدّ. ولا أحسب أن هذه الكتابات سعت، يوماً، إلى نسبة صاحبها إلى مجال معرفي غير مجالات النقد الأدبي الذي هو نقطة البداية والنهاية. وحتى عندما استغرقت هذه الكتابات في قضايا غير أدبية، سياسية أو فكرية أو اجتماعية أو دينية، وذلك في مدى الهموم التي اقترنت بالدفاع عن قضايا الاستنارة، وتأكيد الحضور الواعد لمبادئها المتجددة، فإن هذا الاستغراق كان من منظور الناقد الأدبي في النهاية، خصوصاً حين يتزايد إدراك هذا الناقد أنه لا معنى لعمله الأدبي إلا باشتباكه مع تحديات زمنه بوعوده ورعوده، وأنه لا نقد أدبياً على سبيل الحقيقة إلا من منظور رؤية جذرية للحياة، تهدف إلى تطوير الواقع الذي يسعي الأدب نفسه إلى تغييره نحو الأفضل والأكمل والأجمل. ولذلك فإن كل ابتعاد عن الأدب إلى مجال غيره - في هذه الكتابات - هو اقتراب من الأدب، على طريقة "أجافيكم لأعرفكم"، أو "سأطلب بُعْدَ الدار عنكم لتقربوا"، فنقد الأدب هو الغاية التي تتجلى في الكثير من تنويعات كتابة المقال التي تبدأ وتنتهي في محبة الأدب.