يبدو اننا امام نقطة تحول مهمة في مسار "الوباء الرئوي الحاد الشديد" او "سارز"، الذي اقض مضاجع العالم أخيراً. والارجح ان اجتماع قادة دول جنوب شرقي آسيا والصين الذي ينعقد اليوم في بانكوك لبحث "سارز"، سيسمع كلاماً فيه بعض التفاؤل، للمرة الاولى منذ انفجار المرض خلال الاسابيع الماضية. وأبرز ما في كلام التفاؤل ان فيتنام هي أول دولة ناجية، لأنها لم تسجل أي حال جديدة منذ عشرين يوما، وهي فترة يعتبرها الاختصاصيون كافية للاطمئنان. أعلن عن ذلك ديفيد هاينيمان، مدير برنامج الامراض السارية في "منظمة الصحة العالمية"، الذي أشار ايضاً الى انحسار موجة المرض في كثير من الأماكن، خصوصاً سنغافورة وهونغ كونغ وكندا. وفي المقابل شدد هاينيمان على ضرورة عدم الركون الى الارقام المطمئنة، فلعلها مجرد هدنة عابرة في اول وباء للقرن الحادي والعشرين. فقد وصل عدد الوفيات الى 333 منذ اكتشاف المرض في تشرين الثاني نوفمبر من العام الماضي. ووصلت حالات الاصابة الى ما يزيد على 54 ألف شخص في 30 دولة، اكثر من نصفهم في الصين وحدها. وسجلت اندونيسيا اول وفاة من "سارز"، والضحية رجل اعمال تايواني. وفي منحى الحذر، تأتي تلك الرؤية المتشائمة التي قال بها كبير الاطباء في بريطانيا انظر صفحة9. أشباح الحرب العالمية الاولى والحال ان المجتمع العلمي برمته يتابع موجة الوباء العالمي Pandemic لمرض "سارز"، وفي ذاكرته الموجة المشابهة لما عرف ب"الانفلونزا الاسبانية" التي غزت العالم بعد الحرب العالمية الاولى مباشرة، وقتلت حوالى أربعين مليون شخص في ستة اشهر. وحينها، سجلت أوروبا وآسيا وأميركا سقوط آلاف القتلى من الشباب أسبوعياً. وبقيت تلك الانفلونزا شبحاً مخيفاً في ذاكرة الطب الحديث. والمفارقة ان اختصاصيي الانفلونزا كانوا متخوفين من ان يجدد فيروس الانفلونزا نفسه، ويغير من شكله، ليصبح اكثر ضراوة ويضرب ضربة مشابهة لما حدث في العام 1918! ولم تخب "توقعاتهم" كثيراً. والمعلوم ان كثيراً من الاختصاصيين اعتقدوا ان فيروس "سارز" هو شكل متغير من فيروس الانفلونزا. لكن هذا الاعتقاد لم يدم طويلاً. ففي منتصف الشهر الحالي، أعلنت منظمة الصحة العالمية ان مجموعة من المختبرات المتعاونة في العالم تمكنت من فك الشيفرة الوراثية لفيروس "سارز". ويومها، توافق رأي الاختصاصيين البرت اوستير هاوس، من جامعة "ايرسيموس" في الدنمارك، وهربرت شميتز، من مختبر الأوبئة في جامعة هامبورغ الالمانية، على ان تركيب فيروس "سارز" يحسم انه من منشأ حيواني. والاهم انهما توافقا على القول بأنه "شيء لم تشهد له البشرية مثيلاً". انه ليس فيروس انفلونزا متغيراً، وليس زواجاً بين نوعين من الفيروسات، مثل فيروسي الحصبة والنكاف، كما اعتقد البعض ايضاً. ولأنه شديد الفرادة، صار الخوف كبيراً. ولأنه "قفز" من عالم الحيوان الى عالم الانسان، ربما عبر عادات الاكل في اقليم غاندونغ الصيني الذي انطلقت منه الموجة، فإنه شديد الفتك. يجدر التشديد على هذا المعطى الاخير. فثمة مجموعة من الفيروسات التي أثارت هلع العالم المعاصر، يرجع جزء من قوة فتكها الى انتقالها المفاجئ من الحيوان الى الانسان. يجيء في هذه القائمة فيروس "مرض جنون البقر" و"الايدز" على سبيل المثال. ويجدر القول ايضاً ان آراء العلماء توافقت على القول ان اكتشاف التركيب الوراثي لفيروس "سارز" لم يستغرق سوى اسابيع. فقد انطلقت الابحاث في 12 آذار مارس بمبادرة من منظمة الصحة العالمية. وفي منتصف الشهر الحالي، حُلَّ لغز التركيب الوراثي. وافاد هذا الامر شركة مثل "روش" التي اعلنت انها ستطلق أداة للاختبار المبكر والسهل للمرض خلال الشهر المقبل. ويميل البعض الى اعتبار ذلك مؤشراً الى المستوى الذي بلغته علوم الوراثة. والمعلوم ان شهر نيسان ابريل الجاري هو ذكرى مرور خمسين عاماً على انطلاق علوم الوراثة الحديثة، عبر اكتشاف الحمض الوراثي على يد العالمين فرانسيس كريك وجورج واطسن. ولعلها مصادفة ان يأتي أول أوبئة القرن في خضم أول حروب القرن، تماماً كما حدث في الانفلونزا الاسبانية. ولعلها مناسبة للتأمل في الموت وأسبابه وعلاقته المتشابكة مع حضارة البشر.