نار «الأصلية» أم هجير «التشاليح» ؟    492 ألف برميل نفط يومياً وفورات يومية    مقامة مؤجلة    هوس «الترند واللايك» !    صعود الدرج.. التدريب الأشمل للجسم    تقنية مبتكرة لعلاج العظام المكسورة بسرعة    التنفس بالفكس    أمير حائل يرفع التهنئة للقيادة نظير المستهدفات التي حققتها رؤية المملكة 2030    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    افتتاح المعرض التشكيلي "الرحلة 2" في تناغم الفن بجدة    أمير جازان ونائبه يهنئان القيادة بما تحقق من إنجازات ومستهدفات رؤية المملكة 2030    60 مزارعا يتنافسون في مهرجان المانجو    هيئة السوق المالية تصدر النشرة الإحصائية للربع الرابع 2023م.    الصحة: رصد 15 حالة تسمم غذائي في الرياض    "أوبرا زرقاء اليمامة" تبدأ عروضها بحضور عالمي    الهمس الشاعري وتلمس المكنونات    الأخضر تحت 23 عاماً يواجه أوزبكستان في ربع نهائي كأس آسيا    أمين الرياض يحضر حفل السفارة الأميركية    تحول تاريخي    المملكة تبدأ تطبيق نظام الإدخال المؤقت للبضائع    العين يكشف النصر والهلال!    تشجيع الصين لتكون الراعي لمفاوضات العرب وإسرائيل    خلط الأوراق.. و«الشرق الأوسط الجديد»    فلسطين دولة مستقلة    محمية الإمام تركي تعلن تفريخ 3 من صغار النعام ذو الرقبة الحمراء في شمال المملكة    الفيحاء يتجاوز الطائي بهدف في دوري روشن    تفكيك السياسة الغربية    القيم خط أحمر    لو ما فيه إسرائيل    نائب أمير الشرقية يستقبل نائب رئيس جمعية «قبس»    مقال «مقري عليه» !    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة أمام الرياض    الكشف عن مدة غياب سالم الدوسري    أرامكو السعودية و«الفيفا» يعلنان شراكة عالمية    ريال مدريد في مواجهة صعبة أمام سوسيداد    مانشستر سيتي يضرب برايتون برباعية نظيفة    النواب اللبناني يمدد ولاية المجالس البلدية والاختيارية    الهجوم على رفح يلوح في الأفق    سلمان بن سلطان يرأس لجنة الحج والزيارة بالمدينة    رئيس الشورى يرأس وفد المملكة في مؤتمر البرلمان العربي    حزمة الإنفاق لأوكرانيا تشكل أهمية لمصالح الأمن الأمريكي    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة ال82 من طلبة كلية الملك عبدالعزيز الحربية    أمير القصيم يثمن دعم القيادة للمشروعات التنموية    إطلاق برنامج تدريبي لطلبة تعليم الطائف في الاختبار التحصيلي    مريض سرطان يؤجل «الكيماوي» لاستلام درع تخرجه من أمير الشرقية    "ذكاء اصطناعي" يرفع دقة الفيديو 8 أضعاف    مستشفى ظهران الجنوب يُنفّذ فعالية "التوعية بالقولون العصبي"    «رؤية 2030»: انخفاض بطالة السعوديين إلى 7.7%.. و457 مليار ريال إيرادات حكومية غير نفطية في 2023    أمير عسير يعزي الشيخ ابن قحيصان في وفاة والدته    استمرار هطول أمطار رعدية مصحوبة برياح نشطة على المملكة    تسليم الفائزات بجائزة الأميرة نورة للتميُّز النسائي    أدوات الفكر في القرآن    إنشاء مركز لحماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    النفع الصوري    أسرة البخيتان تحتفل بزواج مهدي    انطلاق "التوجيه المهني" للخريجين والخريجات بالطائف    تجهيز السعوديين للجنائز «مجاناً» يعجب معتمري دول العالم    تحت رعاية الأمير عبد العزيز بن سعود.. قوات أمن المنشآت تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة العامرية وزمن الفتنة . ممالك الطوائف في الأندلس كما أرخ لها ابن حيان القرطبي 987 - 1076 1 من 2
نشر في الحياة يوم 15 - 07 - 2001

} أبو مروان بن حيان شيخ مؤرخي الإندلس وعمدتهم ت 469ه/ 1076م، شهد في مطلع شبابه أيام الدولة العامرية، ثم كتب له ان يشهد الفتنة التي تلتها، والتي أدت الى سقوط الخلافة الأموية في قرطبة 422ه/ 1031م، وقيام ممالك الطوائف في الأندلس في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي.
ولابن حيان كتابان معروفان، أولهما "المقتبس"، الذي تناول المؤلف في أجزائه العشرة تاريخ الأندلس من الفتح العربي الى نهاية الدولة العامرية في أواخر القرن الرابع الهجري. ولابن حيان كتاب "المتين" - في ستين مجلداً - وفيه تناول بالتفصيل أخبار الفتنة، وقيام ممالك الطوائف في الأندلس من 399ه الى 462ه.
شهدت الأندلس عصرها الذهبي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي في عهد الخليفتين الأمويين عبدالرحمن الثالث الناصر لدين الله وابن الحكم الثاني المستنصر بالله. وقد استخلف الحكم قبيل وفاته ان الصبي هشاماً - ولما يبلغ العاشرة من العمر - متجاوزاً اخوة الحكم وابناء عمومته الأكفاء.
وكما كان منتظراً، فقد حدث صراع على السلطة بين العناصر الأندلسية في العصر، وعلى رأسها جعفر المصحفي، حاجب الحكم المستنصر، وبين العناصر الصقلية في البلاط،، انتهت بانتصار الجماعة الأندلسية، وتنصيب هشام خليفة. الا ان الصراع على السلطة استمر، وانتهى باستبداد اندلسي طموح بالحكم، هو محمد بن أبي عامر، الملقب بالمنصور. وقد حقق المنصور للأندلس فترة طويلة من السلام والرخاء 368 - 392ه/ 978 - 1002م وأنشأ جيشاً نظامياً ثابتاً، قوامه عناصر من المغاربة استدعاها من بر العُدوة.
الأندلس في عصر ابن حيان
خلف المنصور ابنه عبدالملك حاجباً للخليفة هشام الثاني، فسار على سياسة أبيه في الجهاد ضد الممالك النصرانية شمال اسبانيا، كما جلب المزيد من المغاربة من شمال أفريقيا، وبخاصة من ضهاجة بزعامة زاوي بن زيري. وقد قُدر لهذه العناصر المغربية ان تلعب دوراً حاسماً في مسار الأحداث في الأندلس في ما بعد.
وهكذا فإن الأندلس نعمت بفترة طويلة - قرابة قرن - من السلم والرخاء من عهد الخليفة الناصر الى نهاية أيام الحاجب عبدالملك بن أبي عامر 398ه/ 1008م. الا ان كلَّ ذلك تبدل اثر وفاة عبدالملك وتولي اخيه عبدالرحمن الحجابة للخليفة هشام الثاني. كان عبدالرحمن هذا عاجزاً سيئ السيرة، ونقم عليه أبناء البيت الأموي حمله هشاماً على تسميته خلفاً له، فقام أحد الأمويين - محمد بن هشام بن عبدالجبار - بالاستيلاء على السلطة، ونصب نفسه خليفة. ان هذه الثورة في قرطبة بدأت فترة من الحرب الأهلية يشير اليها ابن حيان بالفتنة المبيرة وبالفتنة البربرية 399-422ه/ 1009 - 1032م وفيها تناوب الخلافة أمويون وغير أمويين، الى ان اعلن أبو الحزم بن جهور نهاية الخلافة في قرطبة 422ه/ 1031م. والحقيقة ان الخلافة الأموية في الأندلس انتهت بالفعل بوفاة الخليفة الحكم المستنصر 366/ 976م، إذ ان ابنه المستخلف هشاماً كان خليفة بالإسم، وكانت السلطة الحقيقية بأيدي العامريين لأكثر من ثلاثين عاماً.
يرى ابن حيان انه كان من الممكن للأندلس تجنب هذه الفتنة المدمرة لو ان الحكم استخلف أخاه المغيرة، أو أحد أبناء عمه، بدلاً من ابن الصبي هشام. يقول ابن حيان: "انتهت خلافة بني مروان الى الحكم، تاسع الأئمة فيهم، فتناهت في السرو والجلالة والكمال والأبهة... الا انه - تغمد الله خطاياه - مع ما وصف من رجاحة، كان ممن استهواه حب الولد وأفرط فيه، وخالف الحزم في توريثه الملك بعده في سن الصبا، من دون مشيخة الإخوة وفتيان العشيرة ومن يكمل للإمامة من دون محاباة، فرط هوى ووهلة، انتقدها الناس على الحكم وعدوها الجانية على دولته... فتخطى جماعتهم الى ابنه هشام، وهو في الوقت طفل ما بلغ الحُلم". أما ابن عذاري المراكشي فيحمل مسؤولية الفتنة محمد بن هشام بن عبدالجبار، بسبب عدائه للبربر، وتحريضه أهل قرطبة على القيام عليهم ونهب دورهم "فكان هذا من فعل السفيه ابن عبدالجبار ورأيه سبب الفساد والفتنة العظيمة الطويلة التي يسميها أهل الأندلس بالفتنة البربرية، ولو سموها بفتنة ابن عبدالجبار لكان الأحق والأولى".
ان الفتنة التي بدأت بثورة محمد بن هشام بن عبدالجبار - الملقب بالمهدي - على عبدالرحمن ابن أبي عامر أدت الى انقسام الأندلس بين جماعات أو طوائف متصارعة هي جماعات الأندلسيين والبربر والصقالبة. ان عرضاً للأدوار التي قامت بها هذه الجماعات اثناء فترة الفتنة من شأنه ان يلقي الضوء على تطور الأحداث إبان الفتنة وبعدها.
أهل قرطبة
ان الفتنة التي نشبت بعد سقوط الدولة العامرية 399ه/ 1009م كانت كارثة للأندلسيين عامة ولأهل قرطبة على وجه الخصوص. وكان أهل قرطبة شهدوا ايام عزٍ ورخاء واستقرار في عهدي الخليفتين الناصر والمستنصر، وفي عهد دولة بني عامر.
وكان المنصور أعفى الأندلسيين من الخدمة العسكرية، وأنشأ جيشاً نظامياً معظمه من البرابرة. ورحب الأندلسيون بهذه السياسة، إذ في مقابل أداء ضريبة سنوية امكنهم التفرغ لشؤونهم الزراعية والصناعية والتجارية. الا ان هذه السياسة كانت لغير صالحهم على المدى البعيد، اذ عجزوا عند قيام الفتنة عن الدفاع عن أنفسهم.
عانت قرطبة كثيراً في فترة الفتنة، فقد نهبت مدينتا الزاهرة والزهراء وتعرضتا للدمار. ففي وقعة قنيتش سنة 400ه/ 1009م، هُزم اهل قرطبة على أيدي البرابرة وحلفائهم وفقدوا ألوفاً من رجالهم، كان من بينهم الفقيه البارز القاضي أبو الوليد ابن الفرضي.
وخلال فترة الفتنة، ظلَّ أهل قرطبة على ولائهم للعناصر الأموية أملاً منهم في عودة أيام الخلافة الزاهرة. الا ان الخلفاء الأمويين الثلاثة الذين ولُوا الخلافة ما بين عامي 414 - 422ه/ 1023 - 1031م لم تتعد سلطتهم مدينة قرطبة وأحوازها. أما بقية الأندلس، فقد آلت الى حكام من الأندلسيين أو البرابرة أو الصقالبة، وهم المعروفون بملوك الطوائف. ويمثل صاحب طليطلة، اسماعيل بن ذي النون، نموذجاً منهم، وكان من أشدهم نفوراً من وحدة الأندلس في ظل خلافة أموية: "والله لو نازعني سلطاني هذا الصديق لقاتلته ولما سلمتُ له. فكيف أُسلمِّ سلطاني لمن يُدعى اليه من بني أمية ممن لا يوجب الله طاعتهم؟".
البرابرة
ان البرابرة الذين لعبوا دوراً بارزاً في الفتنة التي اعقبت سقوط الدولة العامرية كانوا وفدوا الى الأندلس حديثاً، وكانوا ينتمون الى مجموعتي قبائل زناته وصنهاجة. وقبل القدوم الى الأندلس، كانت زناتة في المغربين الأقصى والأوسط من أنصار الأمويين في الأندلس، بينما كان ولاء صنهاجة في أفريقيا البلاد التونسية للعبيدتين الفاطميين، مما أدى الى قيام حروب طويلة بين الجماعتين. ولما كان المنصور محمد بن أبي عامر بحاجة الى كُفاة المحاربين لغزواته المتواصلة في شمال اسبانيا، فإنه استدعى زناتة الى الأندلس، وبذلك - كما يقول ابن عذاري - استبدل المنصور الأندلسيين بالبربر. أما عبدالله بن بلقين - آخر أمراء بني زيري في غرناطة - فيقول ان المنصور استجلب "من رؤساء البربر وحماتها وانجادها من بلغه فروسيته وشدته. وتسامع الناس بالجهاد، فبادر اليه من شرق العدوة من كان لهم من الآثار والمكارم والبأس ما لا خفاء به، وبهم كان يصول ابن أبي عامر على العدو. وهم كانوا العُدة في الجيش، والموثوق بهم عند اللقاء ومعترك الوغاء. وكان من أدهاهم رأياً وأبعدهم همة زاوي بن زيزي عمنا، وبعده حبوس بن ماكس ابن اخيه... فإليهما كان الرأي والمشورة في الأمر والحكم على من دونهم من الأجناد".
وقد واصل عبدالملك بن أبي عامر سياسة ابيه الخاصة لجلب البرابرة من بر العدوة. ومن أبرز من قدم الى الأندلس في عهده زاوي بن زيزي عمُّ المغر بن باديس صاحب القيروان، ولكن زاوي - كما يقول ابن حيان - لم يكن راضياً عما حباه إياه عبدالملك، وكان كثيراً ما يذكر انه يريد العودة الى وطنه. يقول ابن حيان "فاستقلوا ما وصلهم به عبدالملك على كثرته، وما استقروا الدار الا على قلعة... والأقدار موكلة بثني عزم عبدالملك عن اسعافهم بسراحهم لما كان قدره - عز وجهه - من الفتنة وتفريق شمل الأندلس بأشباههم. فلم يخرجوا عنها الى ان قاموا على الجماعة وشرفوا عليها بعد عبدالملك... وكان عبدالملك راغباً في رفع منزلته، وولاه الوزارة أرفع خطط اصحاب السلطان بالأندلس، ووصل اليه الرسول بالصك في ذلك، وأطلب ان يصله عليه، فقال: لو جئنا بمالٍ لاسهمناك، وانما خطتنا الامارة لا الوزارة".
ولم يخف الخليفة الأموي محمد بن عبدالجبار عداءه للبربر، وقام العامة بقرطبة - بتحريض منه - بنهب أموالهم والاعتداء على شيخهم زاوي بن زيري. ان هذه السياسة من جانب ابن عبدالجبار هي - كما تقدم في رأي ابن عذاري - السبب المباشر للفتنة التي يسميها الكتّاب الأندلسيون بالفتنة البربرية، وهي أجدر بأن تُسمى بفتنة ابن عبدالجبار. وعلى ذلك، فإن البربر انحازوا لمنافس ابن عبدالجبار في الخلافة، وهو سليمان بن الحكم، واستولوا على قرطبة وأوقعوا بأهلها. ولما توطد حكم سليمان ابن الحكم، بفضل مساعدتهم له، أقطعهم أراضي في الأندلس، أقاموا فيها اماراتٍ لهم.
الصقالبة
كان الصقالبة أصلاً نصارى، وقعوا في الأسر أو بيعوا رقيقاً، من شمال اسبانيا او ما وراء جبال البيرانيز، ولم يكونوا بالضرورة من الجنس السلاقي أو الصقلبي بشرق أوروبا. وكان الخليفة الناصر قد استحوذ على اعداد كبيرة منهم للخدمة في جيشه وبلاطه لاعتماده على ولائهم. وواصل المستنصر سياسة أبيه هذه تجاه الصقالبة. وقد أبدى الصقالبة ولاءً مستمراً للبيت الأموي، وحظوا بمناصب كبيرة.
ولما استبد المنصور بن أبي عامر بالحكم، حارب الصقالبة وصادر ممتلكاتهم، واستعاض عنهم بالمغاربة من شمال افريقيا. ومع ذلك، فإن المنصور شكل فرقة خاصة به من الصقالبة، وذُكر ان ابنه عبدالملك كان في خدمته ألفا صقلبي من رجال أبيه ممن اشتهروا بالفروسية والرماية.
ولما ولي محمد بن عبدالجبار الخلافة 399ه/ 1009م أبعد الصقالبة العامريين عن قرطبة، فتوجه هؤلاء الى شرق الأندلس حيث سيطروا على عدد من المدن الساحلية، كالمرية وبلنسية ودانية، وأقاموا لأنفسهم امارات فيها. ومن اشهر الصقالبة في فترة الفتنة خيران العامري صاحب المرية، الذي خلفه أخوه زهير فيها، ومجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية جزر البليار، الذي خلفه فيها ابنه علي بن مجاهد.
النصارى شمال اسبانيا
كانت خلافة قرطبة في عهدي الناصر والمستنصر أكبر قوة في شبه جزيرة ايبرية، واعترف ملك ليون وملكة نبارة وأميرا قشتالة وبرشلونة بسيادة الناصر، ودفعوا له الجزية، وكانوا يحكِّمونه في خلافاتهم الكثيرة. واستمرت السيادة الإسلامية في شمال شبه الجزيرة في عهد الحكم المستنصر. وعلى أثر وفاته أخذ حكام النصارى يُغيرون على مناطق الحدود المعروفة بالثغور، فبدأ المنصور بن أبي عامر غزواته السنوية المظفرة ضدهم. ولما علم نصارى الشمال بوفاة المنصور 392ه/ 1002م، استأنفوا غاراتهم في مناطق الثغور. وما ان توطد حكم عبدالملك بن المنصور في قرطبة حتى جهز حملة مظفرة ضد صاحب برشلونة، فناشده بقية أمراء النصارى السلم.
وفي فترة الفتنة بالأندلس، تبدل الوضع تماماً، واستعان المتخاصمون في الأندلس بأمراء النصارى ضد بعضهم البعض، وتنازلوا لهم عن عدد من القلاع والحصون التي كان قد استولى عليها الناصر والمنصور، وبدا وكأن سقوط الأندلس الإسلامية في أيدي النصارى أمرٌ وشيك الوقوع لو اتحدت كلمة هؤلاء النصارى. لكن فترة الفتنة تزامنت مع حدوث انقسامات ومنازعات في صفوف النصارى كذلك.
وفي منتصف القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي تعرضت ممالك الطوائف من جديد الى خطر النصارى في شمال اسبانيا. فقد ضم صاحب قشتالة فرديناند الأول الى مملكة ليون وجليقية. وهزم أخاه غارسية صاحب نبارة، ثم ركز همه في السنوات العشر الأخيرة من حياته على التوسع على حساب جيرانه المسلمين، بادئاً بذلك ما يسمى بحرب الاسترداد reconquista. ففي سنة 449ه/ 1057م، استولى فرديناند على مدينتي فيزو ولميجو في البرتغال حالياً من ابن الأفطس صاحب بطليوس، ثم حول أنظاره الى ان هود صاحب سرقسطة، والمأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، واستولى على عدد من حصونهما، واضطر ثلاثتهم الى دفع ضريبة سنوية تأميناً لأراضيهم. ثم جاء دور المعتضد بن عباد صاحب اشبيلية، فأغار فرديناند على أراضيه سنة 455ه/ 1063م، وعجز المعتضد عن صدِّ هذه الغارات، ووافق على أداء الجزية للملك النصراني. وفي سنة 456ه/1064م، استولى فرديناند على مدينة قلمرية في شمال البرتغال حالياً من ابن الأفطس، ثم هاجم بلنسية، في شرق الأندلس في العام ذاته، وهزم صاحبها عبدالملك بن عبدالعزيز في وقعة بطرنة في ظاهر بلنسية.
توفي فرديناند الأول في سنة 457/ 1065م، ولو انه عاش لواصل التوسع على حساب أمراء المسلمين وأخذ الجزية منهم، وهي السياسة التي انتهجها من بعده ابنه الفونس السادس. وهكذا فإن اسبانيا المسيحية - وقد اتحدت كلمتها - أخذت تهدد الأندلس المجزأة.
ابن حيان القرطبي: سيرته ومؤلفاته
وُلد أبو مروان حيان بن خلف بن حسين بن حيان القرطبي سنة 377ه/ 987م، وتوفي سنة 469ه/ 1076م، وعلى ذلك فإنه شهد في مطلع شبابه وحدة الأندلس ومنعتها على عهد الدولة العامرية، ثم شهد قيام الفتنة وزوال خلافة قرطبة وقيام ممالك الطوائف في الأندلس. آلمه كثيراً ما آلت اليه حال الأندلس من تمزق وفرقة بعد ان نعمت بالوحدة والمنعة أيام الخلافة الأموية، التي يسميها ابن حيان بأيام الجماعة، فأخذ في تدوين تاريخ عصره بعمقٍ واسهاب، فكان كتاب "المتين" في ستين مجلداً. ولسوء الحظ، فإن كتاب "المتين" - وهو كتابُ ابن حيان الأصيل - لم يصلنا الا في مقتطفات ونتفٍ أوردها ابن بسام الشتريني في كتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، كما احتفظ ببعض فقرات الكتّاب المؤرخون الذين أتوا بعد ابن بسام كابن الأبار وابن عذاري وابن الخطيب. ان الفقرات التاريخية في كتاب ابن بسام الموسوعي، الذي أرخ فيه للأدب الأندلسي في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، مقتبسة في معظمها من كتاب "المتين" لابن حيان. يقول ابن بسام: "واعتمدت المائة الخامسة من الهجرة، فشرحت بعض محنها... وأحصيت علل استيلاء طوائف الروم على هذا الاقليم الأندس... وعولت في معظم ذلك على تاريخ ابن مروان بن حيان... فإذا اعوزني كلامه، وعزني سرده ونظامه، عكفت على طللي البائد، وضربت في حديدي البارد". ويقول ابن بسام في موضع آخر من "الذخيرة" انه يلخص أخبار ملوك الجزيرة الأندلس اعتماداً على ابن حيان "لأني إذا وجدت من كلامه فصلاً قد أحكمه أو خبراً قد سرده ونظمه، عولت على ما وصف... إقراراً بالفرق، واعفاءً لنفسي من معارضة من أحرز بأفقنا في وقته قصبات السبق...".
وقبل تصنيف "المتين"، كان ابن حيان ألف كتاب "المقتبس" في عشرة أجزاء أو أسفار، وهو - كما يستدل من عنوانه - اقتباسات عن مؤرخين سابقين لابن حيان لم تصلنا كتبهم. ويؤرخ ابن حيان في "المقتبس" للأندلس من الفتح العربي الى نهاية الدولة العامرية. وتتخلل الكتاب فقرات من انشاء ابن حيان نفسه، يبدي فيها رأيه الصريح في الأمراء الذين يتحدث عنهم.
ان كتابات ابن حيان تتميز بالتفصيل والدقة، كما تتميز بالصدق والصراحة والجرأة في القول، وبعصبيته لقوميته الأندلسية، وميوله لبني أمية، وتمجيده لأيام الجماعة أو الخلافة بقرطبة، ونفوره الشديد من ملوك الطوائف، لما جنوه على الأندلس من فرقة وتمزق، مما أطمع الروم بها.
ويعتبر ابن حيان في طليعة المؤرخين العرب في البيان وبلاغة الأسلوب، والتقصي، والمجاهرة في الرأي، والتدليل والتعليل للأحداث. وعليه اعتمد مؤرخو الاندلس من بعده الى يومنا هذا. ولو قُدر لكتاب "المقبس" - بجميع أجزائه - وكتاب "المتين" الوصول الينا كاملين لتوافرت لدينا معلومات وافية عن تاريخ الأندلس من الفتح العربي الى منتصف القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، أي لفترة مداها ثلاثة قرون ونصف القرن.
وقد أثنى المؤرخون القدامى والمحدثون على تاريخ ابن حيان، فابن حزم الأندلسي في رسالته عن فضل اهل الأندلس وذِكر رجالها يقول "ان التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس لابي مروان بن حيان "من أجَلِّ كتاب ألِّف في هذا المعنى". وفي الترجمة التي عقدها الحميدي لابن حيان يقول ان ابن حيان "له خطٌّ وافر من العلم والبيان وصدق الايراد". ويسميه ابن بشكوال "صاحب لواء التاريخ، أفصح الناس فيه وأحسنهم نظماً له". أما ابن الآبار فيسميه "جهينة أخبار المروانية".
والمستشرق الهولندي المعروف دوزي، ذو الفضل الكبير على الدراسات الأندلسية ورائدها - شديد الاعجاب بابن حيان مؤرخاً وأديباً، فهو يقول: "ان كُتّاب العرب يمتدحون في كتب ابن حيان صدق الرواية، بقدر ما يعجبون بجمال أسلوبه وجزالة لغته وزين عباراته، وأنا أؤيدهم في ذلك كل التأييد، ولا أتردد في القول بأن كتبه - لو بقيت - لألقت على تاريخ الأندلس الغامض ضياءً باهراً، وصورته لنا احسن تصوير، ولوجدنا انها تبلغ من الامتياز مبلغاً يجعلنا نستغني بها عن غيرها من الكتب التي تتناول تاريخ هذه العصور... انه يسوق التاريخ مساقة من يبدي رأيه وحكمه فيما يعرض من القضايا، ويبحث عن أسباب الأشياء ويناقشها عن علم وفهم وذكاء... ولا نجد من بين مؤرخي العرب الا القليلين ممن نستطيع ان نقارنهم به، ولن نجد من نقدمه عليه".
كتاب "المقتبس"
يؤرخ ابن حيان في "المقتبس" - كما أسلفنا - للأندلس من الفتح العربي الى نهاية القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. والكتاب في معظمه عملٌ غير أصيل لابن حيان، إذ فيه يقتبس عمن سبقه من مؤرخي الأندلس، كأبي بكر بن القوطية، وأحمد بن محمد الرازي، والخشني وابن الفرضي، وعريب بن سعد وصاعد البغدادي وابن عبد ربه. ومع ان "المقتبس" لا يشتمل الا على القليل من كتابة ابن حيان نفسه، الا انه يدل على مجهود وعلم كبيرين، وأخباره التاريخية كثيراً ما نجدها في الذروة: لا يبدي تحيزاً، وهو معتدل في آرائه، ذو نظر ثابت، ومقدرة على وصف الأشخاص وتقييمهم".
لم يعثر الى الآن الا على أربعة أجزاء من مجمل أجزاء "المقتبس" العشرة، وقد نشرت الأجزاء الأربعة، وهي: الجزء الثاني، ويتناول الفترة 232 - 267ه، والجزء الثالث، ويتناول الفترة 275 - 298ه، والجزء الخامس، ويتناول الفترة 299 - 330ه، والجزء السابع، ويتناول الفترة 360 - 364ه.
وفضلاً عن ذكر أخبار الأندلس، يأتي "المقتبس" - وبدقة - على بعض أخبار اسبانيا المسيحية، مما جعل باحثاً حديثاً يقرر بأن "ابن حيان ينبغي ان يُجعل في طليعة من يرجع اليهم عند الحديث عن تاريخ اسبانيا المسيحية حتى أواخر القرن العاشر الميلادي". ولعل ابن حيان كان يعرف عجمية مستعربي الأندلس، أو انه استمد اخباره من المستعربين بقرطبة، وكانوا على اتصال بإخوانهم في الدين في شمال اسبانيا.
يتوخى ابن حيان الدقة في تحديد التاريخ الهجري، فيذكر اليوم والشهر من السنة الهجرية، وما يقابل ذلك بالميلادي، كقوله عن حادثة فلكية وقعت في سنة 320ه انها كانت "ليلة السبت، لثمان بقين من المحرم سنة 320، وهي ليلة ست عشرة خلت من اكتوبر الشمسي".
ولا يكتفي ابن حيان بذكر مناقب الأمراء كما فعل مؤرخو البلاط الذين أخذ عنهم في "المقتبس"، بل يضيف الى ذلك من عنده باباً من الذم، حين يقتضي الأمر ذلك. فقد ذكر الأمير الأموي عبدالله بن محمد، يتحدث ابن حيان عن هوان الدماء عليه، حتى من ولديه واخوته، كما يشير الى شدة بُخله.
ويخصص ابن حيان أكثر من ثلثي الجزء الثالث من كتاب "المقتبس" لأخبار الثائرين والمنترين على الامارة في قرطبة - وعلى رأسهم عمر بن حفصون - ويحمل عليهم بشدة، لما كان في قيامهم على الإمارة من تصديع وحدة الأندلس وجماعتها.
وفي الجزء الخامس - وهو في معظمه يتناول السنوات الثلاثين الأول من إمارة الناصر - يسهب ابن حيان في الحديث عن التدابير التي اتخذها الناصر للقضاء على ثورات عمر بن حفصون وأبنائه من بعده، وكيف تمكَّن الناصر من القضاء عليها بالمداراة والحزم معاً، ثم ما اتخذه الناصر من تدابير لمطاردة أهل البدع المخالفة للسُنة، ومن بينهم اصحاب ابن مسرَّة. ومع اعجاب ابن حيان بالخليفة الناصر، فإنه لا يتوانى عن ذكر معايبه، كانهماكه في المعاصي، واستهتاره باللذات، وتغليظ العقوبات، وتهوية الدماء، وتعليق أبناء السودان في ناعورة قصرة. ويذكر من جملة وسائل تعذيبه الأُسودَ الفتاكة، التي أتى بها خصيصاً من بر العُدوة.
ورغم معاداة ابن حيان لجماعتي قبائل صنهاجة وزناته اللتين قدمتا الى الأندلس في القرن الرابع الهجري بقصد المشاركة في الجهاد أيام الناصر والمستنصر، وفي عهد بني عامر، لدورهما في شبِّ نار الفتنة في مطلع القرن الخامس الهجري، فإنه ينشر كتاباً بعث به الناصر الى الأمير الزناتي موسى بن أبي العافية، فيه تقريظ لزناتة، جاء فيه قوله: "ولكم في الديانة بصائر قوية... ولم تكونوا لأهل البدع سراعاً... المشهورة في الحرب ملاحمكم، لا تزالوا مجاهدين في سبيل الله حق جهاده". ويذكر الناصر في كتابه الخليفة العبيدي العاظمي عبيدالله المهدي، ويدعو زناتة الى وحدة الصف في قتاله فيقول "وان تجعلوا جدكم وبأسكم في جهاد عدوكم هذا الذي قاتلكم وناصبكم وأراد تبديل كلمتكم وتفريق جماعتكم وادخال الشبهات على اسلامكم... فمرة يتأله عند الجماعة ممن ركن اليه، وتارة يتنبأ، وتارة يتسمى بما لم يره الله له أهلاً... كيف وهو الساقط الدعي... والزنيم اليهودي".
وفي الجزء الخامس من "المقتبس" معلومات "مهمة عن قيام الناصر بتعزيز الأسطول وانشاء دور صناعة السفن. وبفضل الأسطول، استولى الناصر على فرضتي المجاز ستة وطنجة، مما مكنه من تقديم العون لحلفائه الزناتيين، إذ أخذ في مدهم بالرماة والسفن لصد الغارات المتكررة التي كان يشنها عليهم العبيديون وحلفاؤهم من صنهاجة.
وقلَّد الناصر عدداً من رجالات اهل الذمة مناصب رفيعة، وكان يوفدهم في سفارات الى ملوك النصارى. ولم يعترض ابن حيان على ذلك، مما يدل على روح التسامح التي كان ينظر بها الى الأمور. فقد أوفد الناصر طبيبه اليهودي حداي بن اسحاق ابن شبروط سفيراً الى صاحب جليقية، والى صاحب برشلونة، كما أوفد سفارة من أساقفة اهل الذمة في مهمة الى صاحب جليقة.
وعن المبادلات التجارية بين الأندلس وبين الامارات المسيحية في جنوب ايطاليا، يذكر ابن حيان، ضمن احداث سنة 330ه/942م، نبأ وصول تجار مدينة ملف لجنوب ايطاليا "بضروبٍ من تجاراتهم النفيسة من سبائك الفضة الخالصة والديباج" برفقة رسول صاحب سردانية الذي جاء "يطلب الصلح والألفة".
وفي الجزء السابع من كتاب "المقتبس" - وفيه يتناول ابن حيان بالتفصيل أحداث اربع سنوات من خلافة الحكم المستنصر 360 - 364ه/ 970 - 974م، يركِّز المؤرخ على السفارات التي كانت تفد الى بلاط الخليفة من ملوك النصارى، ويُسهب في وصف المواكب والمراسم في الأعياد. كما يتطرق ابن حيان في هذا الجزء الى استدعاء الحكم المستنصر بني برزال الزناتيين من اقليم مسيلة جنوب شرقي الجزائر للجهاد في الأندلس، بعد ان كان يعارض في قدومهم، وعلى الرغم من كونهم على خلاف مذهب أهل السنّة، ويعقب بقوله "فكان ذلك من بعده سبباً لتقدمهم طوائف الجند الأندلسي، وهدمهم للملك العامري، والقاحهم للفتنة البربرية الحالقة".
كان الحكم المستنصر من المعجبين بفروسية زناتة، فكان "يتطلع على فرسان البرابر اذا تحركوا للعب، شاخصاً اليهم معجباً بهم، يقول لمن حوله: انظروا الى انطباع هؤلاء القوم على خيولهم... ما أعجب انقيادها لهم، كأنها تفهم كلامهم".
ولما كان ابن حيان يعتبر هؤلاء القوم سبباً في الفتنة بالأندلس، وهي الفتنة التي أطاحت بخلافة قرطبة وأفضت الى قيام ممالك الطوائف، فإنه يعقِّب على ذلك بقوله: "وذلك كله من تهيئة المقدار المقضي من الله بهم عباده ما قدَّر جريه على أيديهم لما اجتباهم الخليفة الحكم - رحمه الله - لولده المرشح لمكانه..."، واستمر الحال على ذلك في عهد ابن أبي عامر "فعلاهم على طبقات أجناده، واصطفاهم لنفسه، واعتدوا بعده على الخليفة في معنى الامتعاض منهم، لعدوانهم على ولده اعتداءً أصارهم الى ما هم الآن بصدده من إبطال الخلافة، وتفريق الجماعة، والتمهيد للفتنة، والإشراف بالجزيرة على الهلكة".
* أكاديمي فلسطيني في أوكسفورد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.