في أكثر من شارع شعبي، في العاصمة السورية دمشق، كان يمكن المارة مشاهدة عبارة على واجهة محل تجاري تقول: لا يوجد عندنا بضائع اميركية، او لا نبيع بضائع أميركية، من دون شرح السبب الواضح لهذه العبارة. وعندما يدفع الفضول بالمارة الى السؤال عن السبب، تأتي الاجابة الشافية، التي توضح ان البائع يتعاطف مع القضايا العربية، ويرى في الولاياتالمتحدة حليفاً وداعماً رئيسياً لاسرائيل! وتصاعدت هذه الحملة أخيراً، فأضحت مثل هذه الدعوات تظهر على الزاوية اليسرى في اعلى الصفحة الأولى لمنشورات اتحاد الكتّاب العرب، كما يحدث حالياً على الصفحة الأولى لجريدة "الأسبوع الأدبي"، حيث ترد العبارة التالية: "أيها العرب. قاطعوا البضائع الأميركية. انهم يقتلون أطفالنا". هذه العبارات قد تتناقض للوهلة الأولى مع الانفتاح الذي تشهده سورية، لكنها على أرض الواقع إفراز جديد لحالة التعبير الصادقة عن موقف سياسي ما، والتي كانت تجد اصداء لها بين الناس في اكثر من شكل. ومثل هذه الدعوات ظهر مع تجدد انتفاضة الشعب الفلسطيني، وعبر عن نفسه بطرق كثيرة كان أبرزها التظاهرات الضخمة التي شهدتها دمشق كرد فعل على قصف الشعب العراقي من قبل الطيران الأميركي والبريطاني، والتي احتشدت أمام السفارة الأميركية في العام الماضي وأسفرت عن تمزيق العلم فوق مبنى السفارة الأميركية الحصين في دمشق. واندفع المثقفون السوريون في مرحلة متقدمة الى احدى الساحات العامة، وسط دمشق، وقاموا بإحراق نماذج من البضائع الأميركية في وقت تقوم فيه لجنة وطنية بتنسيق الدعوات لمقاطعة تلك البضائع ولتفعيل المقاطعة العربية ضد اسرائيل. وفي بيان صدر في دمشق، ووقع عليه اكثر من 500 كاتب وفنان وكاتب واستاذ جامعة تمت الدعوة الى مقاطعة عشرات الأسماء من البضائع الأميركية التي يستهلكها السوريون بشكل اعتيادي كالتبغ والصابون والثلاجات وأجهزة التكييف والمشروبات الغازية وغيرها. وفي افتتاحية كتبها الدكتور علي عقلة عرسان في صحيفة "الأسبوع الأدبي" رفع شعاراً واضحاً يقول: "أرفض بضاعة أميركية تمنع رصاصة عن اخيك في فلسطين"! وتذكر هذه الظواهر، الى حد ما، بالمد الوطني الذي كانت تشهده سورية إبان الازمات الصعبة كأزمة الجزائر دعوات نصرة الجزائر والعدوان الثلاثي على مصر. وتتبدى هذه الدعوات للغرب، وكأنها رد فعل لا تلبث ان تنطفئ مع مرور الوقت، لكن، يلاحظ خطأ هذا الظن لأن السوريين شكلوا قناعة ثابتة تقول ان الولاياتالمتحدة هي التي تقف وراء اسرائيل، وبالتالي، فهي المسؤول الفعلي عن اعمال اسرائيل، وتماديها، ومعاداتها للسلام الذي يسعى العالم كله لاحلاله في المنطقة! كتب صاحب احد المتاجر الصغيرة دعوة صريحة للمقاطعة، وعلقها على زجاج متجره، وقال غاضباً: ربما تكون البضائع اسرائيلية! لكن مثل هذه العفوية عند السوريين اهم بكثير من لافتة يعلقها حزب او شعار يردده سياسي! والجدية تكمن أيضاً، في التعاطف السريع مع مثل هذه الدعوات، حيث يسارع المواطن بالفعل الى ازدراء البضائع الأميركية والاشاحة بوجهه عنها، ومن ثم متابعة المسألة بتحريض الآخرين على ان يحذوا حذوه وهكذا! السوريون جادون في تعاطفهم مع الانتفاضة الفلسطينية، ويمكن تلمس مثل هذه الجدية برصد ارقام المتطوعين السوريين الذين كانوا يلتحقون بالمقاومة الفلسطينية مع كل هجمة عدوانية على لبنان عندما كانت المقاومة الفلسطينية موجودة فيه، ولا يتناقض هذا الشعور مع التوجهات الرسمية التي لم تفاجئ الشعب السوري عند رفض التنازل عن اي حق من الحقوق المشروعة لسورية خلال جولات مباحثات السلام، بعكس ما ذهب اليه بعض المحللين الغربيين. ان تصاعد الدعوات الى مقاطعة البضائع الاميركية جاء استكمالاً لموجة رفض التطبيع مع اسرائيل التي عبرت عن نفسها ايضاً بأكثر من صيغة، حتى على الصعيد البروتوكولي الذي رافق مباحثات وزير الخارجية السوري: فاروق الشرع، مع رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق: ايهود باراك، وصفق المثقفون السوريون طويلاً للسيد الشرع عندما أكد لهم، في اجتماعه معهم بعد عودته من واشنطن انه لم يصافح باراك اثناء المباحثات حتى بعيداً من الأضواء، فهذه المسألة لا تبدو شكلية عند السوريين، بل لها من الدلالات ما يكفي للقول ان العاطفة الوطنية ربما تتماشى مع الممارسة السياسية، وهذا يعني ان جرحاً كبيراً لا يمكن ان يندمل بسهولة سببته العدوانية الاسرائيلية عبر عقود طويلة، وقد أعاقت آلام هذا الجرح كثيراً رفاه الشعب السوري وحريته. وسببته ايضاً السياسة الاميركية التي تضرب عرض الحائط بأدنى حق من الحقوق المشروعة للعرب، لمجرد استرضاء اسرائيل ومؤيديها الاميركيين! ومقاطعة السوريين للبضائع الاميركية ما زالت في اولها، لكن مجرد ظهور هذه الدعوات يؤكد ان ثمة اصواتاً تعلو، والاصوات عندما تعلو في المسائل الوطنية تسمع في كل الانحاء، ويهتم بها كل من يسمعها!